]..الشعر واللهو[..
كنت غارقا في بحر الشعر الذي لاشاطئ له،أعيش أجواء قصيدة شعرية جاش بها صدري،وانثالت صورها وأخيلتها ومعانيها على ذهني وملأت أصداء ألحانها جنبات نفسي،لم يبق إلا أن يهطل مطر القصيدة،حتى القلم أمسكت به،وجردته من غمده استعدادا لرحلة ريشته الجميلة بين سطور الورقة الموجودة أمام،إنها لحظة غنية من لحظات العطاء الشعري،إنها ساعة إخصاب عاطفي لا تتحقق دائما،لقد بدأ هطول مطر الشعر؛ها هو ذا أول الغيث بيت من الشعر يحمل صدى إيقاعات نفسي،ويحدد الوزن والقافية التي صاغتها مشاعري:
قد يخلص الإنسان وهو مخالف
ولقد يسر الغدر وهو موافق
إن هذه القصيدة قد بدأت من آخرها،لم يأت المطلع بعد،الفكرة لم تأخذ تسلسلا طبيعيا،لابأس،إن كثيرا من القصائد الجياد تأتي بهذه الصورة،إنه الجيشان العاطفي،والإختلاج الشعري،كنت-في حينها-قد ذهلت عن كل ما حولي،لم أقفل باب مكتبي ولم أطلب من الموظف أن يعتذر لي من كل من يزورني في ذلك الوقت.
وأنى يكون ذلك وقد كان هجوم القصيدة مفاجئا،إن الشعر يتقن الهجمات المفاجئة ،المربكة،الرائعة!ولايحسن أبدا ترتيب المواعيد المنظمة،إنه شبيه ببعض بني آدم الذين يحسنون اقتحام خلوات الناس دون سابق إنذار،هنالك فرق واحد،الشعر يفاجئك بكل رائع وجديد من الصور والأخيلة،والتعبير عن خلجات النفس،أما المباغتون بالزيارة من بني آدم فهم يحرمونك من لذة الخلوة،وينقلونك إلى أجوائهم الباهتة،ويتيحون لك الحديث عن كل شيء يهمهم ويعنيهم،أما مايعنيك أنت فلا!
ياحسرة القلب على تلك اللحظة الشعرية المتوهجة،لقد فاجأني أحد بني آدم،فعكر عليّ أجواءها،بل أهدر دمها وقتلها،فتلاشت وانتهى كل شيء..
رددت على الرجل السلام،وحييته تحية ممزوجة يقدر لابأس به من الضيق والتبرم،وجلس قبل أن أدعوه إلى الجلوس،وبدأ حديثه معي.
كنت مصغيا إليه بهدوء كامل،وأنا أشعر-من حيث لايشعر هو-أنه قد حرمني من لحظات عطاء شعري متميز،-لاحول ولاقوة إلا بالله-!إن الرجل يتحدث بطريقة منفرة،عباراته خشنة،وصوته أكثر خشونة،وفكرته باهتة،وطريقة عرضه لها خالية من الذوق،إنه يتحدث بالفصحى،لكنه لايقيم لسلامة النطق والإعراب وزنا،-اللهم لك الحمد-على هذا الإبتلاء-.
كنت قد عزمت على أن أستمع إليه وأهز له رأسي بالموافقة حتى ينتهي من حديثه،ثم أودعه بمثل ما استقبلته به من الضيق والتبرم،المهم أن يقول ما لديه ثم يغادر المكتب،لعلي أستطيع أن أستعيد جزءا من وهج تلك اللحظة الشعرية التي قضى عليها ولكن-ياللهول،انتهى الرجل من حديثه ثم أخذ يسألني،وكانت طريقته في طرح الأسئلة أشد خشونة من صوته،ومن أسلوب حديثه،بدأني بسؤال لو استطعت أن أمسك به وألفه ثم أضرب به وجهه-مع اعتذاري للقارئ-لفعلت قال بصوت أجش:
-هل أنت شاعر؟
قلت متأففا من طريقة نطقه لكلمة "شاعر":
-يقولون ذلك!
وابتسم ابتسامة خشنة،صدقوني لقد أدركت حينها أن الإبتسامة يمكن أن تكون شديدة الخشونة،وقال:
-لاحول ولاقوة إلا بالله ،اللهم لاتجعلنا من الغاوين!
قالت:
-اللهم آمين!!
وتحرك الرجل في مكانه بعد أن التهم"فنجان الشاي"ثم بدأ يسرد على مسامعي نصيحته ...-سبحان الله-!أيمكن أن يكون في الحياة شيء ثقيل ممض بهذه الصورة،أيمكن أن يكون في الناس رجل بهذا الفهم والتصور المقلوب،وبهذه القناعات المشوهة ،بل أيمكن أن يكون هنالك إنسان قادر على أن يتعامل مع الحقائق،والأفكار الصحيحة بهذا القدر المفرط من الفهم العقيم،السقيم؟
كانت الإجابة عن هذه التساؤلات في نفسي سريعة جازمة واضحة لا لبس فيها:نعم يمكن أن يوجد كل ذلك،والدليل القاطع هذا الإنسان الذي يجلس أمامك والذي تبتلى بالاستماع إلى حديثه الآن!..
قال:إن الله صرح في القرآن بأن الشعراء يتبعهم الغاوون،فإذا كان أتباعهم من الغاوين،فماذا يكونون هم؟
وكانت إجابة الرجل عن سؤاله سريعة مباشرة:يكونون أكثر إغواء منهم،إنك ياأخ،ياشاعر،أغوى من الذين يتبعونك!
قالها:ثم تباكى وهز رأسه أسفا،وقال:أنقذ نفسك من هذه الغواية وعاهدني الآن أن تترك الشعر وتسلك طريق الصالحين،إن من الناس من يقاد إلى الجنة بالسلاسل،وأنا مصمم ألا أخرج حتى أقودك إلى الجنة،لك ياأخي القارئ أن ترسم في ذهنك صورة لهذا الرجل وهو يتكلم بهذه الكلمات،وضع ملامح هذه الصورة ماشئت من الفظاعة والخشونة والغلظة،ثم تخيل أنك تستمع إلى كلامه،واستعرض كل خطأ في النطق باللغة والتواء في طريقة النطق ببعض العبارات،تخيل كل ذلك ،ثم تخيل كيف سيكون موقفك لو كنت جالسا في مكاني وجها لوجه مع هذا الإنسان؟
لقد غضبت؛حقيقة لاشك فيها،وكان غضبي مستعدا للإنفجار،لقد كان الجو خانقا تماما،بالرغم من الشتاء كان في ذرة برودته وصقيعه،فماذا أصنع؟
"لاتغضب"تذكرت هذه العبارة المضيئة التي أوصى بها الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل،"لاتغضب"ماأروعها من عبارة وما أجدرني بها في هذه اللحظة..
قلت له:ياأخي هذه المسألة من أوضح المسائل في شرعنا الإسلامي،فآيات القرآن الكريم قسمت لنا الشعراء إلى قسمين،وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقفه من الشعراء أوضحت لنا الرؤية الإسلامية الصائبة إلى الشعر وكذلك أقوال الصحابة رضي الله عنهم ومواقفهم،كانت بيانا واضحا لهذه القضية،ولم يعد هنالك مجال لهذه الرؤية الضيقة التي أراك-أيها الأخ الكريم-تنظر بها إلى الشعر،هل أنت أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلال والحرام؟!
قال منفعلا:أعوذ بالله،ماهذا السؤال،وكيف تتجرأ على طرحه؟
قلت له:أستغفر الله إن كنت قد أخطأت،ولكني أحببت أن أذكرك بأن الرسول عليه الصلاة والسلام،أشاد بمواقف شعراء الإسلام ودعا لهم،وحثهم على الشعر الصادق النزيه،بل إنه أجاز على الشعر الجيد،كما هو مشهور في قصة "كعب بن زهير"إنه يفسر لنا تفسيرا جليا معنى الآية الكريمة التي أشرت إليها..
قال صاحبي:ولكن حفظ القرآن ودراسته أفضل من قول الشعر وحفظه وقراءته، فلماذا تضيع وقتك الثمين في الشعر،وتترك القرآن؟.
هنا شعرت أن ذهن صاحبي محدود الفهم،وأيقنت بصعوبة إقناعه،ومع هذا قلت له:لاشك أن العناية بالقرآن فضل عظيم،والقياس الذي ذكرته قياس فاسد،والمسلم -بلا شك-مطالب بدراسة القرآن وقراءته وتأمل آياته،ولا يصح له-بحال من الأحوال-أن يهجره أو يتهاون به،ولكن ذلك لايمنع من العناية بالشعر الجيد النزيه،هل أنت ياصاحبي أفقه في هذه المسألة من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه؟
قال لي:ماهذه الأسئلة المنكرة،وأين أنا من عمر-رضي الله عنه-،الورع التقي الفاروق..
قلت:وهذه أيضا أستغفر الله منها إن كانت خطأ،ولكني أردت أن أن أذكرك بأن عمر-رضي الله عنه-كان معجبا بالشعر يرويه ويسمعه،ويشيد بجيده ويعتني به،وهذا الموقف العمري منسجم تماما مع المفهوم القرآني والمفهوم النبوي للشعر والشعراء،وأظنك توافقني على أن الاقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام أمر شرعي واجب،لايتم الإيمان إلا به،فكيف تحكم على الشعر حكما ظالما ناقصا من خلال الآية الكريمة: (والشعراء يتبعهم الغاوون)،وتنسى مابعد الاستثناء في قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا...).
قال وقد بدا عليه التضايق:وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،أولئك قوم كانت أوقاتهم كلها الله،فما يضيرهم أن يستمعوا إلى شيء من الشعر،أما نحن فقد بعدت بنا حياتنا عن ديننا،وشغلنا بها عن الآخرة،فعنايتنا بالشعر سبب لزيادة هذا البعد،ثم إن الشعر المعاصر كله زندقة وإلحاد وشهوات وأهواء،لقد أصبح الشعر في زماننا هذا وسيلة من وسائل الإفساد فكيف نجيز لأنفسنا الإنشغال به..
بهذه الكلمات،وبهذا المفهوم المضطرب المتشابك،أدخلني صاحبي إلى دائرة من الشعور باليأس من استيعابه للفكرة الصحيحة،ومع ذلك وجدت نفسي معنيا بأمره،وغمرني شعور عميق بضرورة إيصال الرؤية الإسلامية الصحيحة للشعر إلى ذهنه،وسألته:ماذا يعمل الأخ؟
قال:أعمل مدرسا في المرحلة الثانوية.
قلت: وماذا تدرس لطلابك؟
قال-مبديا تذمره-:وأي طلاب تسأل عنهم،لم يعد هناك طلاب ولاطلب صحيح للعلم،أصبحت الدراسة عادة اجتماعية،لايقصد بها الطالب العلم،وإنما يقصد العمل والوظيفة،انتهى كل شيء يارجل،العلم انتهى،والفكر انتهى ولم يبقى إلا الفن والرياضة...واسترسل الرجل بالخشونة نفسها،حتى قضى....-خلال كلامه-على كل أمل في حياة الناس ،وعلى كل جهد علمي مذكور مشهور..
قلت له: ياأخي،أنت تنظر إلى الحياة بسوداوية قاتمة،نحن لانختلف حول تفريط كثير من الناس في العلم الجاد،ولانغفل جانب الإهمال من كثير من الطلاب في تلقي العلم النافع الصحيح،وانشغالهم بمظاهر المدنية المعاصرة الزائفة،ولكن ذلك لايعني أن الخير قد انتهى،وأن العلم والفكر قد انتهيا على حد تعبيرك-ثم تابعت كلامي بسؤال محدد،قلت له:سألتك ماالمادة التي تدرسها قال:أنا أدرس كل التخصصات،إن دراستي كانت شرعية،ولكنني أدرس أحيانا مواد اللغة العربية،وأدرس الجغرافيا،والتاريخ أحيانا أخرى...وقطعت عليه استرساله بسؤال آخر:
قلت له:ما دمت تدرس مواد اللغة العربية-أحيانا-فأنت إذن تدرسهم النصوص والأدب،وفيها من النماذج الشعرية،الكثير،فماذا تصنع بها؟
قال-مبديا تذمره الشديد-:هذا من البلاء،وهو أمر مفروض علي،ولكنني أنصح الطلاب دائما بالبعد عن الانشغال بالشعر حتى لايكونوا من الغاوين..
ما أشد تحامل هذا الرجل على الشعر،وما أضيق نظرته إليه!!
قلت له:الرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"إن من الشعر حكمة،أو حكما" وأصحابه –بلا استثناء-يستشهدون بالشعر ويستمعون إليه،ويمتدحون أصحابه المجيدين،ويوصون أبنائهم بقراءته،وقد ورد ذلك صحيحا صريحا عن أبي بكر وعمر،وعائشة،وعلي بن أبي طالب،ومعاوية رضي الله عنهم جميعا،بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أصدق كلمة قالها شاعر:"ألا كل شيء ماخلا الله باطل"،ثم تسمح لنفسك أيها المدرس النابه بأن تحذر الطلاب من الشعر عامة دون استثناء؟
وهنا بدا التذمر والضيق على وجه الرجل،وزاده ذلك خشونة وجلافة ثم قال:كل هذا الكلام الذي تقوله نعرفه،وأنا جئتك ناصحا،وذنبك على جنبك،والسلام عليكم!
هل نهض حقا؟أهو الآن خارج من المكتب أم أن عيني تكذبني؟اللهم لك الحمد،لقد غادر المكان فعلا..سبحان الله العظيم،كم في هذه الدنيا من العجايب،لم أكن أتوقع أنه سيأتي اليوم الذي أرى فيه إنسانا ثقيلا هل نهض حقا؟أهو الآن خارج من المكتب أم أن عيني تكذبني؟اللهم لك الحمد،لقد غادر المكان فعلا..سبحان الله العظيم،كم في هذه الدنيا من العجايب،لم أكن أتوقع أنه سيأتي اليوم الذي أرى فيه إنسانا ثقيلا إلى هذه الدرجة،لقد قرأت في كتب النوادر والملح وسير العلماء عن الثقلاء،بل قرأت كتبا خصصت لأوصافهم وأخبارهم،ولكنني كنت أظن أن فيها قدرا كبيرا من المبالغة،وأن مقتضيات"فن النوادر"تدعو من يشتغل بروايتها إلى شيء من المبالغة للإطراف،ما كنت أعلم أن تلك الكتب تصور الحقيقة فيما تنقل،حتى زارني هذا الرجل فتأكد الأمر عندي.
لقد فرحت بمغادرته مكتبي،ولكنني شعرت بوخز الأسى في قلبي إذ أنني لم أستطع أن أكسر حاجز خشونته وغلظته،لأدخل إلى قلبه وأقنعه بالتصور الخاطئ الذي يحمله ويحكم من خلاله على الشعر بصفة عامة لا استثناء فيها.
وأقول أخيرا:رضي الله عن عائشة أم المؤمنين التي قالت-كما أورد البخاري في الأدب المفرد-الشعر منه حسن ومنه قبيح،خذ الحسن ودع القبيح،ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا،ودون ذلك..
وأتساءل:لو اطلع-ذلك الضيف الثقيل-على هذا القول لعائشة رضي الله عنها،فبماذا-ياترى-كان يجيب؟.
***********