تقف أمام الكوخ الخشبي في ظلمة الليل.
تمسح عرق السنين من جبهتك . إنها محطتك الأربعون . ترفع كفك الواهنة و تطرق الباب .
تنتظر الرد ولا شيء سوى الصمت و السكون. فتسند قامتك إلى جدار الكوخ و تغوص في التفكير .
ومن أعماق الظلمة تسمع صوتاً يهتف بك : من أنت لتطرق الباب في الليل هذه الطرقات المرتجفة ؟
- أنا .. أنا ..
تتعلثم الحروف في فمك , و تسقط منها النقط و الحركات.
أنت تعلم حقاً من أنت . ومتى بدأت رحلتك .
ولماذا أتيت. وكيف وصلت . لكنك لا تحمل قلماً يبوح بسرك العميق , ولا تملك طرساً ترسم فيه بقية الضوء في قلبك .
واحسرتاه على ما مضى من العمر . هل سيذهب سدى؟ هل ستنطفئ جذوة الببصيرة إلى الأبد ؟
إنهم يحاولون اغتيال ما تبقى لديك من نور فاحذر.
البعض لا يستطيع العيش في الضوء , يزعجه أن يكون بادياً في العراء دون غطاء.
نور الحق يؤذي عينيه, وشعاع الصدق يفضح كذبه و زيفه .
-دعهم يفعلون.
-ماذا ؟! ... ألا تريد مواصلة الدرب إلى نهايتها ؟
- وماذا سأجد في نهايتها ؟ منذ دهر أسير حتى تورمت قدماي . و كلما لاح لي بريق غذذت نحوه السير , بأن لي أنه آل . قلبي المتعب تختلط فيه المشاعر بالظنون.
عيناي أضناهما النظر في الهواجر . و استلبهما لعاب الشمس ما بقي فيهما من وهج .
-لكنك ستصل إلى النهاية . وستنعم بعدها بالراحة .
-وكيف تعلم ذلك؟
-أعلم لأن مثلك يملك العزيمة على السير , ولديه بوصلة لا تحيد عن المسار .
-حقاً ؟ ... ألا ترى عزيمتي قد أصابها العرج ولما تنتصف الدرب ؟! وبوصلتي تاهت في هذا الليل البهيم . صدقني هذه الدرب لا تصلح للسير .
- بل تصلح. وأنت قادر على قراءة حدودها , ووضع الإشارات للآتين بعدك.
-تحاول ذاكرتك الواهنة أن تصل إلى ملامح الأيام الخوالي التي بدأت فيها رحلتك الطويلة .
هناك يختبئ جرح ما ذاال ينزف حزناً على ما فات, ولم تستطع السنون تضميده . و أنت تخشى أن يحدث ما لا تحمد عقباه فيتسع الخرق على الراقع ويستعصي الفتق على الراتق.
ويزداد الجرح نزفاً و معاناة .
لقد بذلت أغلى ما تملك :
عمرك , روحك , صحتك , لحظاتك السعيدة التي مرت دون أن تتمكن من الاحتفاء بها .
لوحاتك التي ما زالت باهتة من دون ألوان , لم تتمكن من وضع الألوان عليها لشدة انشغالك .
طفلك البض و منطقه الغض , لم يسعفك الوقت لتسمع كلماته التي لم تنضج بعد.
تركت كل شيء وراءك وبدأت السير استجابة لنداء يلح عليك .
-فيم تفكر؟ .
-لا شيء سوى الفراغ .
-الفراغ ؟! مثلك لا وقت لديه يضيعه . أنسيت العهد الذي بينك و بينه ؟
- لم أنسه, لكنني لا أقوى على الوفاء به .
- لست الذي أعرف .
- معك حق . الأيام تغير المرء حتى ينكر طباعه وشمائله . والحوادث لا تترك المرء يعيش كما يشاء.
- لكنك لم تتغير . أنت فقط تشعر بالتعب و الإعياء , وتتألم عندما يخذلك الآخرون .
وسرعان ما يعود إليك رشدك, و تتذكر من أنت.
أنت قطرة الغمام الصافية , ومشعل الظلام في الليلة الغدافية .
خذ وقتاً للراحة , استجمع قوتك , لملم عزمك .
لكن لا تطل , هناك من ينتظرك .
فماذا ستقول إن خذلتهم ؟!
وأي أعذار واهية ستسوق لهم ؟
كنت أملهم و مازلت .
أنت من أنت .. فلا تنس ذلك ؟
في هذه اللحظة تتوقد روحك من جديد ..
تشد قبضتيك على صدرك , تتحس الجرح النازف في داخلك . تمر لحظات سريعة في خاطرك .. تتذكر أهلك , إخوانك , قومك , وطنك , ترابك , تنهض من جديد .
تمشق قامتك في ظلام الليل .
ترفع رأسك متفرساً في النجوم .
تحدق ملياً في السماء .
تبحث عن الوجهة القادمة .
- أشكرك .. لقد أريتني الضوء الخافت في قلبي .
الضوء الذي أبصر به دربي , و أرضي به ربي .
- الحمدلله أنك عدت كما عهدتك
أبو فيصل - أبوظبي
مجلة تسالي لكم
العدد السابع يونيو 2010 م
=) أتمنى أن تنال إعجابكم ~