|| صَمْتُ الأَحْزَان [ وقفةٌ تأمليّة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ] ..
**
الارتباط بالله تعالى يورث هموماً للدعوة تقسو على نفس الإنسان وشعوره، تقسو على نفس الإنسان وشعوره، وكون الإنسان يرزق حساً مرهفاً، وعواطف متدفقة جياشة، منسابة بالحب والعطف والصفح والرحمة؛ فإنه يعيش جراء ذلك في أحزان، وقلما، بل صعب جداً، ولربما كان مستحيلاً أن تجد صاحب فظاظة خلق وغلظة قلب يعيش حزيناً، بل غناه وتكبره وغطرسته تجعله مزهواً بنفسه لا يشعر بالآخرين.
**
والمرء الحزين تجد الصمت والأسى ملازمين له، حتى لو ضحك وتبسم، فهو لا يُشعر من حوله بأحزانه، ولربما شعروا بها هم، لكنه لا يريد أن يجعلهم يعيشون حياة قاسية كحياته؛ فحياة الأحزان قاسية غليظة، وكبيرة متسعة، و( الحزن ) في اللغة هو ما غلظ من الأرض، والأرض فيها غلظة وخشونة واتساع.
**
وبالتأمل في حياة المحزونين نجد أنهم على نوعين:
· نوغٌ تافه ، أحزانه دنيويةٌ باطلة ، لا ترتقي به ولا بفكره ..
· ونوع هو ما نريد، صاحب أحزان عظيمة منتجة..
وصاحب هذه الأحزان يقاسي هموم أمة، ويحزن على أوضاعها حزناً ينسيه الجوع والظمأ، واللباس والمنام، ويتألم لما يصيب إخوانه في أصقاع الأرض.
ويحزنه أيضاً أهله وعشيرته، يريد أن يدعوهم إلى الطاعة، ويحقق لهم ما يسعدهم، فإن هم صدوا وأعرضوا زادت أحزانه، وكذلك غيرهم من الناس، يوجهون كلمات الاستهزاء التي تجرح المشاعر، ولربما آذوه بالفعل ضرباً ورجماً.
**
وتتوالى الأحزان، فيرهف الحس أكثر، ويفكر صاحبه بأدنى الأمور وأغربها، فيفكر بالعلم ويحزن لأنه صعب المنال له كله ، ويفكر بالأطفال عندما يرى براءة وجوههم لا يتوقع أن يكبروا فيصيروا شباباً فاسدين، ويفكر أيضاً بالناس جميعاً الفقراء والضعفاء والمساكين والمحتاجين، فيتواضع ولا يتكبر، ويحسن خلقه، وتزداد هيبته ورزانته وثباته، ويعلو على سفاسف الأمور وعلى الدنيا بأسرها.
**
هذه الأحزان طغت على أصحابها؛ لأنهم ينشدون أهدافاً بعيدة المنال، عظيمة جداً، وهم رغم ذلك عازمون على بلوغها، فلا هم الذين سيصلون إليها، _ وهم يدركون ذلك _، ولا هم الذين يستطيعون نسيانها، وإلى ذلك يشير المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ويقول:
وإذا كانت النفوس كباراً .. تعبت في مرادها الأجسام
وهي كبيرة في آمالها وطلباتها، ولذلك تنسى جسمها فترهقه للوصول إلى أهدافها، وهذا ناتج عن كثرة التفكير والأحزان.
**
تتأمل نفس صاحب الأحزان هذا الفساد المستشري، وهذا الوضع المؤلم حولها، فيؤدي ذلك إلى شيء عظيم، ألا وهو التحرك للإصلاح وتعديل الأوضاع، ولن تجد أي مُصلحٍ في الأرض إلا وقد حزن، أما اللاهون العابثون فأنى يصلحون، وهم لا يفكرون بما حولهم.
وأعظم أثر من آثار الأحزان إضافة إلى ما سبق هو الارتباط بالله أكثر، وتذكر اليوم الآخر، فالأعمال الصالحة تورث صاحبها المؤمن خوفاً ووجلاً من أن تُرد ولا تقبل، فيظل يفكر فيها دائماً، حتى إنه ليتمنى أن يخبره ربه بقبولها، أو يطلعه على صحيفة أعماله، وفي ذلك يقول المولى جل شأنه:
" وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مآ ءَاتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إلى رَبِّهمْ رَاجِعُونَ"..
ما أثر ذلك عليهم:
" أولئِك يُسارِعونَ في الخيْراتِ وهم لها سَابِقُونَ"..؛ فأحزان الصالحات جعلتهم يتابعون الخيرات، فلم يتوقفوا، وصفة الإشفاق من العذاب والساعة مدح الله بها المؤمنين، وهي لا تكون إلا للمؤمنين، كما قال تعالى :
" والّذين ءامنُوا مُشْفِقون منها ويعلمُونَ أّنها الحقُّ".
**
تلكم هي الأحزان، آثارها دنيوية وأخروية، وأصحابها تجد فيهم صمتاً خاصاً، هو صمت الأحزان ، يظهر على ملامحهم وقسمات وجوههم، وهو صمت قاسٍ لا يتحمل قسوته إلا هم، ولذلك تجدهم يكظمون الغيظ، ويتغاضون عن الأخطاء، ولا يريدون الانتصار لأنفسهم أبداً، يحتسبون هذا الصمت عند الله وحده، لأنهم يعلمون أنه يعلم لماذا صمتوا، ولم يردوا، ليس ضعفاً ولا عجزاً، ولكن ابتغاء وجه الله تعالى، فهذه هي الأحزان التي نحتاج أن نعيشها، التي تجعلنا نفكر بالإصلاح فنتحرك من أجله، ونتذكر الله واليوم الآخر، فنتمنى لقاءه بشوق إليه.
**
وحتى تعيشن معي الفقرة التالية أرجو أن تقرأن المقالة مرة أخرى ثم تعودن، وتتخيلن في كل فقرة فيها حياة نبيكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستجدن كل هذه الأمور قد اعترته، وغشت حياته وتصرفاته.
إن أردتِ إحساسه ومشاعره فقد كانت أرحم مشاعر على وجه الأرض، فلم يكن يجرح أحداً أبداً، وهذا هو خلقه، فقد قال فيه ربنا:
" فَبِما رِحمةٍ ّمن الله لِنتَ لهُم ولَوْ كنت فظّاً غَليظَ القَلْبِ لانفَضّوا مِنْ حوْلكَ فاعْفُ عَنْهم واستَغْفِرْ لهم وشاوَرْهُمْ فِى الأمـر"..
وقد كانت أحزانه أحزان نبوة وإصلاح في الأرض، ولقي الأذى من قرابته سباً ورجماً وهو صابر، وقال له ربه:
" قَدْ نعْلمُ إنه لَيَحْزُنُك الّذي يقولونَ فإِنهم لا يُكَذّبُونك .."
وقال: " ولقدْ نَعلمُ أنّك يضِيقُ صدْرك بما يقولون، فسَبّح بحمد ربّك وكن مّن الساجِدين، واعبُدْ ربّك حتى يأتِيك اليقِينُ"، ورغم ذلك لم ينتقم، ولم يغضب لنفسه، بل يعفو ويصفح ويحب المساكين، وكان من دعائه: " اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين".، وله هيبته ووقاره التي ترعد من يراه صلى الله عليه وسلم.
وقد كان يربط على بطنه صخرة من الجوع، وربما ثنتين، وهو من دعا إلى الله، وتعلق بالله، وخشي الله واليوم الآخر، فلا تعجب إذا قرأت في صفته:" أنه كان متواصل الأحزان، طويل السكت، دائم الفكرة، ليست له راحة، ونظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء..."..
لكن ما نهايتها ؟؟
نهايتها فرج عظيم في الدنيا والآخرة، فقد نصر الله عبده، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وفتح له فتحاً مبيناً، وهذا هو فرج الدنيا، فلم تذهب أحزانه هباءً.
فمن عاش حياة الأحزان اقترب شيئاً فشيئاً من حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ثم اقترب من الملأ الأعلى، ولن يخيب الله عبداً يتصل به وبملكوته أبداً.
**