لم يكن غزل جرير فنا مستقلا في شعره فقد مزج فيه أسلوب الغزل الجاهلي بأسلوب الغزل العذري.
فهو يصف المرأة ويتغزل بها، ثم يتنقل من ذلك إلے التعبيرعن دواخل نفسه فيصور لنا
لوعته وألمه وحرمانه ، كما يحاول رصد لجات نفسه فيقول:
يـا أم عـمـرو جــزاكـِ الله مـغـفـرة . . . ردي عـلـے فــؤادي كالـذي كـانـا
وجرير رجلُ فنّ في الغزَلِ ، وفنّه قائِم بنوع خاصّ علے الموسيقے اللّفظيـة
فهو يجمعُ إلے الرّقّة والعذوبـة أنغاماً مُطربـة تتصاعد من تآلف ألفاظه
ومن حسن اختيار بحوره وقوافِيه ومن تَكرَار بعض الألفاض للمقارنـة أو الطّباق أو غير ذلكـ
وكذا كانَ غَزَلُ جريرٍ غزَلُ العاطفـة الصّادقـة التي تتألّمُ وتتنفّسُ في تعبير رقيق ليّن يزخر
بالألفاظ الموسيقيـة العَذْبـة وهو غزَلٌ يخلو من البذاءة والقصص الغراميـة الفاحشـة
تلمسُ فيه نزعـة الشّاعر الدّينيـة. يقول الأب شيخو في مجاني الأدب عن الشاعر جرير :
" أمّا الغزَلُ والرّثاءُ وما إلے ذلك من مُتطلّبات الشّعور فإنّه يفوقُ فيها أكثر شُعراء عصره "
[ قصيدة بان الخليط ولو طوعت ما بانا- غزلية - ]
من بحر البسيط وعدد أبياتها 78
بانَ الخَليطُ وَلَو طُوِّعتُ ما بانا
وَقَطَّعوا مِن حِبالِ الوَصلِ أَقرانا
حَيِّ المَنازِلَ إِذ لا نَبتَغي بَدَلاً
بِالدارِ داراً وَلا الجيرانِ جيرانا
قَد كنتُ في أَثَرِ الأَظعانِ ذا طَرَبٍ
مُرَوَّعاً مِن حِذارِ البَينِ مِحزانا
يا رَبُّ مُكتَإِبٍ لَو قَد نُعيتُ لَه
باك وَآخَرَ مَسرورٍ بِمَنعانا
لَو تَعلَمينَ الَّذي نَلقے أَوَيتِ لَنا
أَو تَسمَعينَ إِلے ذي العَرشِ شَكوانا
كصاحِبِ المَوجِ إِذ مالَت سَفينَتُه
يَدعو إِلے اللَه إِسراراً وَإِعلانا
يا أَيُّها الراكبُ المُزجي مَطِيَتَه
بَلِّغ تَحِيَّتَنا لُقّيتَ حُملانا
بَلِّغ رَسائِلَ عَنّا خَفَّ مَحمَلُها
عَلے قَلائِصَ لَم يَحمِلنَ حيرانا
كيما نَقولُ إِذا بَلَّغتَ حاجَتَنا
أَنتَ الأَمينُ إِذا مُستَأمَنٌ خانا
تُهدي السَلامَ لِأَهلِ الغَورِ مِن مَلَحٍ
هيهاتَ مِن مَلَحٍ بِالغَورِ مُهدانا
أَحبِب إِلَيَّ بِذاك الجِزعِ مَنزِلَـة
بِالطَلحِ طَلحاً وَبِالأَعطانِ أَعطانا
يا لَيتَ ذا القَلبَ لاقے مَن يُعَلِّلُه
أَو ساقِياً فَسَقاه اليَومَ سُلوانا
أَو لَيتَها لَم تُعَلِّقنا عُلاقَتَها
وَلَم يَكن داخِلَ الحُبُّ الَّذي كانا
من أبرز علامات تفوق جرير بشعره علے غيره من رواد عصره
أولا : ان جرير قال بيتين في شعر الغزل يعدان أفضلما قيل في الغزل بالعربيـة رغم انه لم يتوله
باحد او يعشق احدا ولم يقل الشعراء مثليهما في الشعر العربي علے مدى العصور.
ثانياً : انه تكالب عليه الشعراء فافحمهم واسكتهم ونقض قصائدهم بافضل منها واشد واقوے
وكان سببا من وجود شعر النقائض في العربيـة.
ثالثاً:طيبـة نفس جرير التي جعلته ينسے كل ماقاله فيه الفرزدق
من هجاء مقذع في قصائده اذ قام برثاء الفرزدق اجمل رثاء في قصيدة رائعـة
تعد من روائع الشعر العربي والتي تُنمِ عن الخلق العربي الاصيل.
كما أنه تفوق بشعره اذ قال اعرابي في مجلس الخليفـة " عبد الملك بن مروان "
بيوت الشعر أربع ( مدح وفخر وغزل وهجاء ) وفي طلها غَلب جَرير .
ففي الفخر قال :
إذا غَضِبت عليك بنو تميم
حسِبتَ النّاسَ كلّهم غضابا
وفي المدح قال :
ألستم خيرَ من ركب المطايا
وأندى العالمين بطونَ راح
وقوله في الغزل :
إنّ العيون التي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا ثمّ لم يُحيينَ قتْلاَنا
وفي الهجاء قال :
فَغُضّ الطّرفَ إنّك من نُمير
فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
وقد قيل سابقاً ( جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر ) .
كذالك قال الفرزدق في هذا الصدد : " ما أحوج جريرًا مع عفته إلے صلابـة شعري
وأحوجني مع فجوري إلے رقـة شعره".
وبعد أن استعرضناً بعضاً من خصائص وأساليب شعر جرير , وتناولنا نماذجاً
من شعره في المدح والهجاء والرثاء والغزل , فهذه بعضاً من أخبار جرير عند الخلفاء
وعند غيره من الشعراء

كان الشعراء الثلاثـة ( جرير , والفرزدق , والأخطل )اشهر الشعراء فے العصر الاموي , وهم
حملـةلواء الشعر فے هذا العصر وأئمته , ولقد قامت معركـة شعريـة كبيرة بين هؤلاء الشعراء
الثلاثـة أسفرت عن ما يسمے فے تاريخ الشعر العربے بـ ( مناقضات جرير والفرزدق ) , وكانت
حرب هجائيـة ممتعـة انتصر فيها جرير فے النهايـة علے الفرزدق والأخطل
روے العتبي قال: قال هشام بن عبدالملك لشبَّـة بن عقال - وعنده الفرزدق وجرير والأخطل،
وهو يومئذ أمير -: ألاَ تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزَّقوا أعراضَهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم
في غير خير، ولا بِرّ، ولا نفع - أيُّهم أشعر؟ فقال شبـة: أمَّا جرير فيَغرِف من بحر، وأما الفرزدق فينحتُ من صخر،
وأمَّا الأخطل فيجيد المدح والفخر، فقال هشام: ما فسرت لنا شيئًا نحصله، فقال: ما عندي غير ما قلت.
فقال لخالد بن صفوان: صِفهم لنا يا ابنَ الأهتم، فقال: أما أعظمهم فخرًا، وأبعدهم ذِكرًا،
وأحسنهم عذرًا، وأشدُّهم ميلاً، وأقلُّهم غزلاً، وأحلاهم عللاً، الطامي إذا زَخَر، والحامي إذا خَطَر،
الذي إن هدر قال، وإن خَطَر صال، الفصيح اللِّسان، الطويل العنان- فالفرزدق.
وأمَّا أحسنُهم نعتًا، وأمدحهم بيتًا، وأقلُّهم فوتًا، الذي إن هجَا وضع، وإن مدح رفع- فالأخطل.
وأما أغزرُهم بحرًا، وأرقُّهم شعرًا، وأهتكهم لعدوِّه سِترًا، الأغرُّ الأبلق،
الذي إن طَلَب لم يُسبَق، وإن طُلِب لم يُلْحَق - فجرير.
وكلهم ذكيُّ الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد، فقال لهشام : ما سمعْنَا بمثلك يا خالدُ في الأولين،
ولا رأينا في الآخرين، وأشهد أنَّك أحسنهم وصفًا، وألينهم عطفًا، وأعفُّهم مقالاً، وأكرمهم فعالاً،
فقال خالد: أتمَّ الله عليكم نعمه، وأجزل لديكم قِسَمه، وآنس بكم الغربـة،
وفرَّج بكم الكربـة- وأنت والله - ما علمتُ -أيها الأمير، كريمُ الغِراس، عالِم بالناس، جواد في المَحْل،
بسام عند البَذْل، حليم عند الطيش، في ذروة قريش، ولباب عبد شمس، ويومك خيرٌ من أمس.
فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلُّصك يا ابنَ صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم، حتے أرضيتَهم جميعًا.
الفرزدق يفخر , وجرير يهجو
قال الفرزدق مفاخراً بقومه:
ان الذي سمك السماء بنے لنا
بيتاً دعائمه اعزّ واطول
بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه
ومجاشعٌ وابو الفوارس نهشل
لا يحتبے بفناء بيتك مثلهم
ابداً اذا عُد الفعال الافضل
ـ يرد عليه جرير:
أخزي الذي سمك السماء مجاشعاً
وبنے بناءك في الحضيض الاسفل
بيتٌ يُحمم قينكم بفنائه
دنساً مقاعده خبيثُ المدخ
قُتل الزبير وانت عاقد حبوـة
تباً لحبوتك التي لم تحلل
وافاك غدرك بالزبير علے منے
ومجرُ جعثنكم بذات الحرمل
بات الفرزدق يستجير لنفسه
وعجان جعثن كالطريق المعمل
وقد كان أيضاً الكثير من المناوشات في الشعر بين جرير والفرزدق يطول ذكرها هنا .
اتصل جرير بكثير من خلفاء بني أميـةوأكثر من مدحهم , فقد اتصل بعبد الملك
بن مروان والوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز
جرير عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز
قدم عليه الشعراء لمدحه والنيل من عطائه فكان يريد منعهم إلا أن حاجبه قال لقد
وقفوا أمام الرسول صلے الله عليه وسلم فكيف تمنعهم فقال من علے الباب فقال له الحاجب
فلان وفلان وفلان فلم يسمح لهم لما سبق لهم من قول تجاوز حد الدين وسمح لجرير بن عطيـة
فلما مثل بين يديه قال:يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقاً،( وهذا تنبيه من سيدنا
عمر للشاعر ألا ينافق في شعره وألا يغالي غلوا , أو يمدحه بما ليس فيه ) فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء أرملة
ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك يكفي فقد والده
كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت
أم قد كفاني ما بلغت من خبري
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
مـــــن الخليفة ما نرجو من المطر
إن الخلافة جاءته على قدر
كما أتـــــى ربَّه مــــوسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
فمن لحاجة هـــذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا
بوركت يا عمر الخــيرات من عمر
فقال : والله يا جرير لقد وافيت الأمر ، ولا أملك إلا ثلاثين دينارا ، فعشرة أخذها عبد الله ابني ،
وعشرة أخذتها أم عبد الله ، ثم قال لخادمه:ا دفع إليه العشة الثالثـة
فقال : والله يا أمير المؤمنين أنها لأحب مال اكتسبته ثم خرج فقال له الشعراء : ما وراءك يا جرير ؟
فقال : ورائي ما يسوءكم!خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء ،
وإنني عنه لراض ثم أنشأ يقول :
رأيت رقے الجن لا تستفزه وقد
كان شيطاني من الجن واقيا

بدايـة 'الراعي النُمَيري هو عُبَيد بن حُصين بن معاويـة بن جندل،
النميري، أبو جندل.شاعر من فحول الشعراء المحدثين، كان من جلّـة قومه، ولقب بالراعي
لكثرة وصفه الإبل وكان بنو نميرأهل بيتٍ وسؤدد و قد تبادل جرير والفرزدقالهجاء أكثر من أربعين سنـة ،
وكان كثير من الشعراء ينزلق في هذه المناظرة مؤيدا شاعرا علي الاخر، وهذا ما حدث للراعي النمير
يحيث انحاز إلے الفرزدق على حساب جرير حيث قال:
يا صاحبي دنا الرواح فسيرا
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فلم يمهله جرير كثيرا بل اعد له في اليوم التالي قصيدة من بحر الوافر و تتكون من97 بيت من الشعر،
فأتي سوق المربد بعد أن احتل الناس مراكزهم واسرج ناقته عند مجلس الفرزدق والراعي النميري
وألقي قصيدته,ويطلق عليها الدامغة وهذه بعض ابياتها:
أَقـلِّـي الـلَّـوْمَ عـــاذِلَ والعِـتـابـا
وقولـي إنْ أَصَبْـتُ، لـقـد أصـابا
أبَے لي ما مَضَے لي في تَميمٍ
وفـي فَرْعَـيْ خُزَيْمَــة أنْ أُعـابـا
أعَــــدَّ الله لـلـشِّـعــراءَ مِــنِّـــي
صَوَاعِـقَ يُخْضِعُـونَ لها الرِّقـابـا
قَرَنْـتُ العَبْـدَ، عـبـدَ بـنـي نُمَـيْـرٍ
مَــعَ القَيْنَـيـنِ إذْ غُلِـبَـا وخـابــا
*
لَبِئْـسَ الكـسْـبُ تكسِـبُـه نمـيـرٍ
إذا استَـأنَـوْك وانتـظَـرُوا الإيـابــا
أَتَلْتَمِـسُ السِّبَـابَ بنـي نمـيـرٍ ؟
فـقــد وأبـيـهمُ لاقـــوا سِـبَـابــا
أنـا البـازي الـمُـدِلُّ عـلـے نمـيـرٍ
أُتِحْـتُ مِـنَ السَّمـاءِ لها انصِبَابـا
إذا عَـلِـقَــتْ مَـخـالِـبُـه بِــقِــرْنٍ،
أصـابَ القلـبَ أو هتَـك الحِجَـابـا
فـلا صَـلَّـے الإلــه عـلـے نمـيـر
ولا سُقِـيَـتْ قُبُـورُهمُ السَّحـابـا
ولـو وُزِنَــتْ حُـلُـومُ بـنـي نمـيـرٍ
علـے الميـزانِ مـا وَزَنَــتْ ذُبَـابـا
فَصَبْـراً يــا تُـيُـوسَ بـنـي نمـيـرٍ
فــإنَّ الـحَـرْبَ مُـوْقِــدَـة شِـهابـا
تَطُوْلُـكـمُ حِـبــالُ بـنــي تَـمـيـمٍ
ويَحْـمـي زَأْرُهـا أَجَـمــاً وغـابــا
ألَـمْ نُعْتِـقْ نِسَـاءَ بـنـي نمـيـرٍ!!
فــلا شُـكــراً جَـزَيْــنَ ولا ثَـوَابــا
فَغُـضَّ الطَّـرْفَ إنـك مِــنْ نمـيـرٍ
فـــلا كـعْـبـاً بَـلَـغْـتَ ولا كــلابــا
إذا غَضِـبَـتْ علـيـك بـنـو تـمـيـمٍ
حَسِبْـتَ الـنـاسَ كلَّـهمُ غِضَـابـا
