الفصل الأول : المحاورة
غابت شمس الصيف أو كادت في ذلك اليوم من أيام عام 1968م ، وبهر مظهرها الفاتن طيارين أمريكيين ، كانا يحلقان فوق جزر ( البهاما ) ، حتى إن أحدهما هتف مشدوها :
- يا للروعة ! أظنني لن أمل هذا المشهد أبدا.
غمغم زميله ، وهو يراقب المشهد الساحر :
- صدقني يا رجل .. ما من مخلوق حي ، ينبض في جسده عرق واحد ، يمكنه أن يمل غروب الشمس ، فالمدهش أن هذا المشهد , على الرغم من تكراره يوميا , يختلف في كل مرة عن الأخرى ، حتى إن ..
بتر عبارته بغتة ، مع شهقة مكتومة ، وهو يحدق ذاهلا في بقعة ما ، بالقرب من الشاطئ , فهتف به زميله في قلق:
- ماذا حدث؟! هل أصابك مكروه؟!
كاد صوت الطيار ينفجر مع انفعاله الجارف , وهو يهتف :
- انظر .. هناك .. عند الشمال الغربي .. بالقرب من الشاطئ .. يا إلهي ! إنها .. إنها ..
بدا من الواضح أن انفعاله يمنعه من التعبير عما يدور في أعماقه بوضوح ، بل ويحبس الكلمات في حلقه أيضا , فتمتم زميله ، وهو يدير عينيه إلى حيث أشار :
- ما الذي يمكن أن ..
بتر عبارته بدوره , واكتظ كيانه كله بانفعال مماثل , وهو يحدق في بقايا جزرية , طفت على سطح المحيط بالقرب من الشاطئ ، حاملة بعض أطلال قديمة متآكلة , تشبه إلى حد ما المعابد الرومانية القديمة , واحتبست الكلمات في حلقه للحظات ، قبل أن يهتف بصوت مختنق :
- هذا لم يكن هنا أمس.
أجابه زميله وهو ينخفض بطائرته , ليدور حول البقايا والأطلال , وذك الانفعال لم يفارقه بعد :
- بالتأكيد .. لقد برز صباح اليوم .. أو مساء أمس على أقصى تقدير .
هتف الأول :
- ترى ما الذي يمكن أن يكونه هذا؟!
بذل زميله جهدا حقيقيا ؛ ليجيب السؤال , إلا أنه لم يستطع سوى أن ينطق بكلمة واحدة مختنقة :
- النبوءة.
سأله الطيار بمنتهى الدهشة :
- أية نبوءة؟!
أجابه زميله وهما يواصلان الدوران بطائرتيهما حول الأطلال التي بدت وكأنها توشك على الانهيار , بعد أن قضت مئات السنين , تحت سطح المحيط :
- نبوءة ( كايس ) .. لقد قال أنها ستظهر هنا.
هتف الطيار وقد تضاعفت دهشته :
- قال أنها ستظهر هنا؟! وما هذه بالضبط؟!
أجابه زميله في انفعال :
- الأسطورة.
ثم ارتجف صوته , مع تضاعف انفعاله , وهو يضيف :
- أسطورة ( أطلانطس ).
وكانت لحظة تاريخية..
بحق..
* * * * *
بدأ الأمر كله بمحاورة ..
محاورة سجلها لنا التاريخ قبل أربعة وعشرين قرنا من الزمان ..
ففي القرن الرابع قبل الميلاد , وحوالي عام 335 ق.م ، ذكر الفيلسوف الإغريقي الأشهر قصة ( أطلانطس ) , في اثنتين من محاوراته الشهيرة , وهما محاورة ( تيماوس ) , ومحاورة ( كريتياس )..
وفي محاوراته ، جمع ( أفلاطون ) بين أربعة , وهم : الفلكي الإيطالي ( تيماوس ) والشاعر المؤرخ ( كريتياس ) , والقائد العسكري ( هوموقراطيس ) , أما الشخص الرابع فكان ( أفلاطون ) نفسه ..
ولقد جمع ( أفلاطون ) _ في محاوراته _ الأربعة في منزل ( كريتياس ) , حيث دارت المحاورات بينهم , حول (أطلانطس) , التي أشار إليها ( هوموقراطيس ) , باعتبارها جزء من العالم القديم المندثر , وهنا راح ( كريتياس ) يروي القصة التي سمعها من أجداده , على لسان جده الكبر ( صولون ) ..
و ( صولون ) هذا شخص حقيقي , ومشرع أثيني كبير , زار ( مصر ) بالفعل عام 590 ق.م. , وروي أنه قد سمع من كهنة ( سايس ), وهي مدينة في شمال دلتا ( مصر ) قصة عن إمبراطورية أثينية عظيمة , سادت حوالي عام 9600 ق.م , وعاصرتها , في الزمن نفسه , إمبراطورية عظيمة أخرى , تسمى ( أطلانطس ) , تقع خلف أعمدة هرقل , أو( مضيق جبل طارق ) في زمننا هذا ..
وقبل أن يتبادر إلى الأذهان أن كهنة قدماء المصريين كانوا يقصدون قارة ( أمريكا ) بروايتهم هذه , يتابع (صولون) قائلا : إن تلك القارة كانت أكبر من شمال ( إفريقيا ) و ( آسيا الصغرى ) معا , وخلفها كنت هناك مجموعة من الجزر , تنتهي بقارة عظيمة أخرى ..
وفي قصتهم , قال كهنة المصريين القدامى , أن سكان ( أطلانطس ) كانوا يعيشون في سلام , وكانت قارتهم أشبه بجنة الله في الأرض , حتى سرت فيهم روح العدوان ورغبة الاستعمار , فانطلقوا يستولون على شمال إفريقيا , حتى حدود ( مصر ) , وجنوب أوروبا حتى ( اليونان ) , وكادوا يسيطرون على العالم أجمع , لولا أن تصدت لهم (أثينا) , وانقضت عليهم بأسلحة رهيبة ..
وفي القصة ، حدث دمار وخراب هائل , خلال ليلة واحدة , وتفجرت الزلازل والفيضانات , التي دفنت مقاتلي (أثينا) تحت الأرض , وأغرقت قارة ( أطلانطس ) كلها في قلب المحيط ..
القصة لم تسجلها أوراق البردي في مصر القديمة , ولم تحملها جدران المعابد الفرعونية ، ولكن سجلتها فقط محاورة ( كريتياس ) , التي كتبها ( أفلاطون ) ؛ ليضعنا أمام أكبر لغز حضاري في التاريخ ..
ترى هل نقل الفيلسوف الإغريقي المحاورة بأمانة , أم أن الأمر كله كان مجرد سر قصصي درامي أنيق , سجله (أفلاطون) في شكل محاورة ، حتى يطرح من خلاله أفكاره ، وتصوراته , ورؤيته للمدينة الفاضلة بشكل عام؟!
أربعة وعشرون قرنا من الزمان مرت ، دون أن يجيب مخلوق واحد هذا السؤال بشكل قاطع!!
وعلى الرغم من هذا , فحتى لحظة كتابة هذه السطور , ما زال هناك باحثين وعلماء آثار مغامرين يبذلون حياتهم نفسها , في سبيل العثور على دليل , يمكن أن يثبت وجود قارة ( أطلانطس) يوما..
أو حتى يؤكد جزءا من قصتها ..
أو أسطورتها ..
وأسطورة ( أطلانطس ) , كما جاءت في المحاورتين ، تبدأ منذ نشأة الحضارة على الأرض , عندما تم تقسيمها بين الآلهة , فكان قارة ( أطلانطس ) من نصيب ( بوسيدون ) إله البحر والزلازل.
وكما عودتنا الأساطير القديمة , يقع ( بوسيدون ) في غرام ( كليتو ) البشرية , التي تعيش في ( أطلانطس ) , ويقرر الاستئثار بها ؛ لذا فهو يحيط القارة بعدة حلقات متتالية من الأرض والماء , فيعزل القارة تماما ولكنه يزودها في الوقت ذاته بالغذاء والخير العظيم , الذي يخرج بوفرة من الأرض , ويفجر فيها نبعين من الماء , أحدهما بارد , والآخر ساخن..
ووفقا للأسطورة , أنجب ( بوسيدون ) و ( كليتو ) خمسة أزواج من التوائم الذكور , تم تقسيم حكم القارة بينهم , في ( اتحاد ملوك ) يرأسه الابن الأكبر ( أطلس ) والذي سميت القارة باسمه.
وعن لسان ( كريتياس ) وصف ( أفلاطون ) معابد وقصورا عظيمة , تزخر بها ( أطلانطس ) , ومعبد ( بوسيدون ) المغطى بالذهب الخالص , والتماثيل الهائلة , والعمارات المدهشة ..
الوصف جعل ( أطلانطس ) جنة موعودة على الأرض , ثم انتهى بدمارها الكامل الشامل , وغرقها في أعماق المحيط , الذي يحمل إلى يومنا هذا اسم المحيط الأطلسي..
وهكذا تكون الأساطير دوما ..
رائعة .. مدهشة .. خلابة ..
وكان يمكن أن يظل الأمر مجرد أسطورة , وقصة أنيقة جميلة , تتوارثها الأجيال , لولا أن حدث في العالم فجأة تطور جديد ..
تطور خطــــير..
للغاية ..
يتبع