القسم الإسلامي العام
(القسم تحت مذهب أهل السنة والجماعة)
(لا تُنشر المواضيع إلا بعد إطلاع وموافقة إدارة القسم) |
#1
|
||||
|
||||
عمر بن عبد العزيز
مقدمة هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقًا أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الراشد أشج بني أمية، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن الأخلاق والخَلْق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهًا مُنيبًا قانتًا لله حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلَّة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين مَلُّوه وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سَقَوْه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين، وكان ـ رحمه الله ـ فصيحًا مفوهًا.. والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا كريمًا، بقى أميرًا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقَيِّمِه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقيل: اسمها ليلى، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه فضلاً عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف، فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده.. أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووالدها عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من نبلاء الرجال خيرًا صالحًا بليغًا شاعرًا فصيحً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأمه مات سنة 70هـ. أما جدته لأمه فقد كان لها موقف مشهور مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فيُروَى عن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنته: يابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت لها: يا أمتاه، أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وماكان من عزمته يابنية؟ قالت: إنه أمر مناديًا، فنادى أن لا يُشابَ اللبنُ بالماء، فقالت لها: يابنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر؛ فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه واللهِ ما كنتُ لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّمِ الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسِّه، فلما أصبحا قال: يا أسلم امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لها رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أُزوِّجه، فقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتًا ولدت البنتُ عمر بن عبد العزيز. ويُذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي ذات ليلة رؤيا، فقال: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلاً كما ملئت جورًا؟ مولده: اختلف المؤرخون في سنة مولده والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين بالمدينة. لقبه: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بالأشج، وكان يقال له: أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز كان كان صغيرًا دخل إلى إصطبل أبيه عندما كان واليًا على مصر ليرى الخيل، فضربه فرس في وجهه فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذًا لسعيد، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان الفاروق عمر يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً، وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك، وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهورًا عند الناس، بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه، كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً. زوجاته: نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها وتأثر بعلمائها، وأكبَّ على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابها، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدَّمه على كثير منهم، وزَوَّجَه ابنته فاطمة بنت عبد الملك، وهي امرأة صالحة تأثرت كثيرًا بعمر بن عبد العزيز، وآثَرَت ما عند الله على متاع الدنيا، وهي التي قال فيها الشاعر: بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها ومن زوجاته ـ أيضًا ـ لميس بنت الحارث، وأم عثمان بنت شعيب بن زبان.. العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته 1ـ الواقع الأسري: نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شَبَّ وعقل ـ وهو غلام صغير ـ كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: يا أُمَّه أنا أحب أن أكون مثل خالي يريد عبد الله بن عمر فتؤفِّف به، ثم تقول له: اغْرُب، أنت تكون مثل خالك، وتكرر عليه ذلك غير مرة، فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلي مصر أميرًا عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تَقْدُم عليه بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به؛ فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر بن عبد العزيز ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز، سألها عن عمر ابنه فأخبرته الخبر فسُرَّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يُجرَى عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مُسلِّمًا وهكذا تربى عمر رحمه الله بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة. 2ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم: لقد رزق عمر بن العزيز منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم، في المدينة وكانت يومئذٍ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيرًا بالقرآن الكريم في نظرته لله عز وجل والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت، وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه حين بلغها ذلك، وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله عز وجل متدبرًا ومنفذًا لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم: ما روى أن رجلاً قرأ عنده وهو أمير المدينة يومئذ "وإذا ألقوا منها مكانًا ضيقًا مقرنين دعوا هنالك ثبورا".. الفرقان: 13 فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه؛ فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرَّق الناس. 3ـ الواقع الاجتماعي: إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم، والعمل بالكتاب والسنة فقد كان عدد من الصحابة ما زالوا بالمدينة، فقد حدَّث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحًا شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم وأمّ أنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية، ومعان إيمانية وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع أثره في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية. 4ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها: اختار عبد العزيز ـ والد عمر ـ صالح بن كيسان ليكون مربيًا لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه، وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يومًا أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة، فقال صالح بن كيسان: ما يشغلك؟ قال: كانت مُرَجِّلَتي ـ مُسَرِّحة شعري ـ تُسَكِّن شعري، فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حَلَقَ رأسه، وكان عمر حريصًا على التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الحرص فكان يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام، والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشرًا عشرًا، ولما حج أبوه ومر بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خَبرتُ أحدًا اللهُ أعظم في صدره من هذا الغلام. ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجلُّه كثيرًا، ونهل من علمه وتأدب بأدبه، وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه؛ فقال: لمجلس من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليَّ من ألف دينار، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير: لو كان عبيد الله حيًا ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عُبيد الله كذا وكذا، وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحرًا من بحور العلم، كما كان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات: بسم الله أنزلت من عنده السـور والحمد لله أما بعد يا عــمرُ إن كنت تعـلم ما تأتي وما تـذر فكن على حذر قد ينفع الحذرُ واصبر على القدر المحتوم وارضَ به وإن أتـاك بما لا تشتهي القدرُ فما صفا لامريء عيش يُســرُّ به إلا سـيتبع يومًا صفوَه كـدرُ وقد توفي هذا العالم الجليل سنة 98هـ، وقيل: 99هـ. ومن شيوخ عمر: سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحدًا من الأمراء غير عمر، ومن شيوخه أيضًا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. وتربى وتعلم عمر بن عبد العزيز على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، ثمانية منهم من الصحابة، وخمسة وعشرون من التابعين؛ فقد نهل من علمهم، وتأدب بأدبهم، ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية في أخلاقه وتصرفاته، فامتاز بصلابة الشخصية، والجدية والحزم في معالجة الأمور، وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح. هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته، ومن الدروس المستفادة، هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسئولية كبيرة وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام، وأهل الجاه والمال، ففي صلاحهم خير عظيم للأمة الإسلامية.. مكانته العلمية اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام... وقال عنه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه. وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء. وقال عنه الذهبي: كان إمامًا فقيهًا مجتهدًا عارفًا بالسنن، كبير الشأن حافظًا قانتًا لله، أوَّاهًا منيبًا، يُعَدُّ في حُسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، وقد احتج العلماء والفقهاء بقوله وفعله. وقال عنه الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكر محاسنه وينشرها؛ فاعلم أن من وراء ذلك خيرًا إن شاء الله. عمر في عهد الوليد بن عبد الملك: يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء، وكان له أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة، ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجلُّه ويُعجَب بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه، ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه، واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتابًا يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وقد جاء فيه، أما بعد: فإنك راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته".. الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثًا ".. النساء: 87 ويقال: إن عمر بن عبد العزيز ولاه عمه عبد الملك خناصرة لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر، وقد قيل: إن سليمن بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصرة، وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزنًا عظيمًا، وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك؛ فقال له: يا مسلمة إني حضرت أباك لما دُفِن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدتُ في ذلك. ولايته على المدينة في ربيع الأول من عام 87هـ ولاه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضمَّ إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، وبذلك صار واليًا على الحجاز كلها، واشترط عمر لتوليته الإمارة الثالثة شروطًا: تم تصغير هذه الصورة. إضغط هنا لرؤية الصورة كاملة. الحجم الأصلي للصورة هو 750 * 598.الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل، ولا يظلم أحدًا، ولا يجور على أحدٍ في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يَقِلَّ ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة، لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج. الشرط الثالث: أن يُسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة، فوافق الوليد على هذه الشروط وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة، وفرح الناس به فرحًا شديدًا. مجلس شورى عمر بن عبد العزيز (مجلس فقهاء المدينة العشرة): كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعندما جاء الناس للسلام عليه، دعا بعشرة من فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تُؤجَرون عليه وتكونون فيه أعوانًا على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرِّج اللهَ على من بلغه ذلك إلا أبلغني. لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز فقد أحدث مجلسًا حدد صلاحياته بأمرين: 1ـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمرًا إلا برأيهم، وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه "مجلس العشرة". 2ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك أن هذا التدبير قد تضمن أمرين: 1ـ أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضًا لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء فما ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصاتهم. 2ـ الثاني: أن عمر افترض غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار، ولهذا لم يشترط مع تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: " أو برأي من حضر منكم ". إن هذا المجلس كان يُستشار في جميع الأمور دون استثناء. ونستنتج من هذه القضية أهمية العلماء الربانيين، وعلو مكانتهم، وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه، ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح، وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يقتصر في الشورى على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيب والزهري وغيرهما، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد. وفي المدينة أظهر عمر بن عبد العزيز رحمه الله إجلاله للعلماء وإكباره لهم وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميرًا ولا خليفة فأخطأ الرسول؛ فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر، قال له: عزمتُ عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ، إنما أرسلناه ليسألك. وفي إمارته على المدينة المنورة وَسَّعَ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الوليد بن عبد الملك حتى جعله مائتي ذراع في مائتي ذراع، وزخرفه ـ أيضًا ـ بأمر الوليد، مع أنه يرحمه الله كان يكره زخرفة المساجد، ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قراراتِ مَن هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها، إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من وجوه أخرى، وفي إمارته على المدينة يسنة 91 هـ حَجَّ الخليفة الوليد بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة. نقطة تحول في حياته إن الصديق الصالح المخلص الذي دائمًا يتعاهدك بالنصح والتذكير، لهو نعمة مَنَّ الله بها عليك، ودليل على رضاء الله عليك، ومحبته لك، قال تعالى: [وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين] {الذاريات: 55} كان من فضل الله على عمر بن عبد العزيز أن أحاطه بصحبة طيبة دائمًا تذكره بالله عند الغفلة، فيُروَى: أن عمر بن عبد العزيز حبس رجلاً فجاوز في حبسه القدر الذي يجب عليه، فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مَرَّ عليه، فقال مزاحم: يا عمر بن عبد العزيز إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، في صبيحتها تقوم الساعة، يا عمر! ولقد كدت أنسى اسمك مما أسمع: قال الأمير، قال الأمير؛ فقال عمر: فواللهِ ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء.. ومنذ هذه اللحظة بدأت حياة عمر بن عبد العزيز في التحول. عمر بن عبد العزيز وخبيب بن عبد الله بن الزبير: ظل عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة حوالي ست سنوات كان فيها موضع الرضا من أهلها، وقد أقام الحج أثناء ولايته عدة مرات، وكان عمر يعتبر فترة ولايته على المدينة من أسعد أيام حياته، ولم يعكر صفو أيامه هذه إلا حادثة خبيب بن عبد الله بن الزبير، فيروى أن خبيب بن عبد الله حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً".. فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ وهو واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط ويحبسه؛ فجلده عمر مائة سوط، وبرَّد له ماءً في جَرَّة ثم صَبَّه عليه في غداة باردة فكزَّ فمات فيها، ثم ندم عمر بن عبد العزيز على ذلك ندمًا شديدًا، فعندما بلغه نبأ وفاة خبيب فزع وسقط على الأرض ثم رفع رأسه يسترجع، فلم يزل يُعرَف فيه حتى مات واستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية، وكان كلما قيل: إنك صنعت كذا فأبشر؛ يقول: كيف بخبيب؟ ولم يزل يذكرها ويتصورها أمام عينيه حتى مات. ومن الأدلة على صلاحه أثنا ولايته على المدينة ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر، والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته وكان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة.. عمر بن عبد العزيز والوليد بن عبد الملك: لقد حاول عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد إصلاح بعض الأمور في الدولة الإسلامية، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عُمَّاله في القتل، وقد نجح في باديء الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة، وموافقته على ذلك، فيذكر بن الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم، فمكث أيامً، ثم قال: يا غلام من بالباب؟ فقيل له: ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل ليه، فقال: نصيحتك يا أبا حفص؛ فقال عمر: إنه ليس بعد الشِّرك إثم أعظم عند الله من الدم، وإن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يَقتُل أحد منهم أحدًا حتى يكتب بذنبه، ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك، فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدَك، عليَّ بكتاب فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم ومن بينهم الحجَّاج فشق ذلك على الحجاج، وظن أن الوليد لم يكتب إلى أحد غيره، ثم سأل عن ذلك فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي أشار على الوليد بذلك، فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره، ثم إن الحجاج أرسل إلى أعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جافٍ من بكر بن وائل، ثم قال له الحجاج: ما تقول في معاوية؟ فنال منه، قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه، قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظَلَّمه. قال: فما تقول في الوليد؟ فقال: أَجْوَرُهم حين ولاك، وهو يعلم عداءك وظلمك، فسكت الحجاج وافترصها ـ انتهزها ـ منه، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني، وأحفظ له من أن أقتل أحدًا لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي، فشأنك وإياه، فدخل الحروري على الوليد، عنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد: ما قول فيَّ؟ قال: ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ. قال: فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. فقال الوليد لابن الريان: اضرب عنقه، فقال: يا غلام اردد عليَّ عمر فرده عليه؛ فقال: يا أبا حفص ما تقول في هذا: أصبنا أم أخطأن؟ فقال: عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه مَنِيَّتُه، فقال الوليد: شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري؛ أفتستحل ذلك؟ فقال: لعمري ما أستحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضبًا، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددتَ أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك، وهكذا احتال الحجاج على الوليد ليصرفه عن الأخذ برأي عمر بن عبد العزيز في الحدِّ من سرف الحجاج وأمثاله في القتل. عمر في عهد سليمان بن عبد الملك: في عهد سليمان بن عبد الملك تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير، فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرَّب عمر بن عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعًا حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به، وجعله وزيرًا ومستشارًا ملازمًا له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في كل صغيرة وكبيرة، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحدًا يفقه عني، وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممتُ بأمر، ولا كربني أمر إلا خطرت فيه على بالي. أسباب تقريب سليمان لعمر: والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود إلى عدة أسباب منها: 1ـ شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجبًا بنفسه معتدًا برأيه وواقعًا تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه، خاليًا من التأثيرات الأخرى عليه. 2ـ اقتناع سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة. 3ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان، مما جعل سليمان يشكر ذاك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان عمر وأعطاه الخلافة بعده. تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية: لقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة من أهمها: عزل ولاة الحجاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة خالد القسري، ووالي المدينة عثمان بن حيان، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر : إن الصلاة كانت قد أُمِيتت فأحيوها، وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور أخرى جليلة يسمع من عمر فيها.. خلافته لقد توج سليمان بن عبد الملك أعماله الصالحة بتولية عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده ما توسمه فيه من الصلاح والتقوى والميل إلى العدل، والحق أن عمر لم يكن راغبًا في الخلافة، فيروي أن عمر بن عبد العزيز بعد أن فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك صعد المنبر، واجتمع الناس فقال: "أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طِلْبةَ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فتولَّ أمرنا باليُمنِ والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعًا، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" أوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خلف كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه...... ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيهاالناس من أطاع الله وجبت طاعتُه، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. الحرص على العمل بالكتاب والسنة: من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة، ونشر العلم بين رعيته، وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمباديء دينهم، وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال في إحدى خطبه: إن للإسلام حدودًا وشرائع وسننًا، فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلئن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أَمِتْ فما أنا على صحبتكم بحريص، وقال أيضً: فلو كانت كل بدعة يميتها الله على يديَّ، وكل سُنَّة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرًا، وفي موضع آخر قال: والله لولا أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقًا، لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتثقيفهم إلى مختلف أقاليم الدولة،وفي حواضرها وبواديها وأمر عماله على الأقاليم بحثِّ العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث به إلى عماله: ومُرْ أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، ليتحدثوا به في مجالسهم، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السُّنَّة كانت قد أميتت، كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء، ليتفرغوا لنشر العلم، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويُقْرِأهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى أفريقية يفقهون أهلها. ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولى القضاء وأسهم أكثرهم -بالإضافة إلى نشر العلم- في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس، تفقيههم بأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج وغيرهم. إقامة العدل لأهل سمرقند: عندما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر، اجتمع أهل سمرقند، وقالوا لسليمان بن أبي السري: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف؛ فَأْذَن لنا فلْيَفِدْ منَّا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أُعطِينَاه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قومًا فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن أبي السري: إن أهل سمرقند قد شكوا إليَّ ظلمًا أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي، فأَجْلِسْ لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم ـ يعني المسلمين الغزاة ـ إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة، فأجلس سليمانُ جُمَيعَ بن حاضر القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل الصغد ـ قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر ـ بل نرضى بما كان ولا نجدد حربًا، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأَمَّنُونا وأَمِنَّاهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا. أية دولة في القرن الحادي والعشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ مجراه، وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب استجاب هكذا لنداءات المظلومين الذين سُلِبَتْ حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة من عمر بن عبد العزيز؟ إلا أنه المسئول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق والعدل في أقطار الأرض فبدونها تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا، فهذا مثل رفيع من عدل عمر، وإننا لنلاحظ في هذه الخبرة عدة أمور: ـ إن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون الحكام عادلين لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد، وسسُنظر فيها بعدل، فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم. ـ إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يمهل قضيتهم وإنما أحالها إلى القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام، والتجرد من هوى النفس، وكان باستطاعته أن يفعل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد والبحث عن رؤوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم، ولكنه قد نذر نفسه لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحكم إليه. ـ إن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلا الحالتين، سواء حُكِمَ لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي. مسئولية الخلافة: كان عمر بن عبد العزيز يدرك عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، وأنه مسئول عن كل فرد في رعيته، فلذلك نجده دائم التفكير فيما يصلحهم فقد أهمه وقوفه بين يدي ربه، وماذا يقول له إذا سأله عنهم يوم القيامة، فيذكر ابن كثير: أن زوجته فاطمة بنت عبد الملك دخلت يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خديه؛ فقالت له: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي ـ عز وجل ـ سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.. الرفق بالرعية: كان عمر بن عبد العزيز يقول: إن أحب الأمور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق عبد بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة، فيُروى أنه خرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجَّه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاءوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مُرَيْئَة تقول: إنه ابني وإنه يتيم؛ فقال لها عمر: هوِّني عليك، ثم قل لها: أله عطاء في الديوان؟ فقالت: لا، فقال: اكتبوه في الذرية، فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟ فعل الله به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية، فقال: ويحك إنه يتيم وقد أفزعتموه.. سياسته الداخلية تعتبر سياسة عمر بن عبد العزيز الداخلية من أهم الجوانب في خلافته، فقد كان عمر بن عبد العزيز إداريًا ممتازًا، ولا عجب في ذلك فقد عركته تجربة الإدارة منذ أن كان واليًا على خناصرة والمدينة، ثم تكاملت عناصر التجربة بعد أن أصبح من أقرب الناس إلى سليمان بن عبد الملك، يرقب الحوادث عن قرب ويتمرس على شئون الدولة وتسيير دفة الحكم فيها، وما أن تولى مقاليد الخلافة حتى ذهب يبذل كل جهده، ويُفني ما تبقى من عمره في إصلاح أمور الدولة، واستقرار الأمن والرخاء في ربوعها، وتحقيق العدالة والكفاية في كل أرجائها، وقد اتخذ لذلك منهجًا كان من أبرز معالمه الحرص على مال المسلمين، والمحافظة على الوقت والجهد، وسرعة التصرف في الأمور، وحسن اختيار القضاة والولاة والموظفين، وإزالة آثار كل عمل لايساير روح الإسلام، وتحقيق التوازن بين الناس، ومجادلة الخارجين على الدولة بالحسنى لإقناعهم وردهم إلى حظيرة الجماعة، كما كان الطابع لهذا المنهج هو العدل والإنصاف والرحمة والإحسان. كان عمر بن عبد العزيز يعرف قيمة المال والوقت، وهما من الأشياء التي يبددها المسلمون الآن فيما لا يفيد، ويعانون من جراء ذلك ما لا يخفي على أحد من التأخر والتخلف، ولكن عمر الفقيه كان يعرف أن صيانة المال واحترام الوقت من أهم ما يحرص عليه الإسلام، لترقي الأمة الإسلامية، فانظر ماذا قال عمر حين جاءه كتاب من أبي بكر بن حزم، والي المدينة يطلب ورقًا يكتب فيه أمور الولاية، فقد كان رده عليه: " أَدِقَّ قلمك وقارِب بين أسطرك، فإني أكره أن أُخرج للمسلمين ما لا ينتنفعون به ".. كما كتب إليه ـ أيضًا :" أما بعد فإنك كتبت إلى سليمان كتبًا لم ينظر فيها حتى قبض ـ رحمه الله ـ وقد بليت بجوابك، كتبت إلى سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين ثمن شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وتذكر أنه قد نفد الذي كان يستضاء به، وتسأل أن يقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال، وقد عهدتك وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج، ولَعَمْرِي لأنت يومئذٍ خيرٌ منك اليوم، والسلام ".. فانظر إلى مدى بلغ حرصه على المال والوقت والجهد، وقد تبدو هذه الأمثلة بسيطة لبعض الناس، ولكنها عظيمة الدلالة على فهم الحكم المسلم لقيمة المال والوقت، وهما من مقومات الحياة. ومن حرص عمر على الوقت أنه كان لا يعرف تأخير عمل اليوم إلى الغد، فيومه كله عمل، وعندما لاحظ عليه بعض أهله مظاهر الإرهاق من كثرة العمل تقدم إليه قائلاً: "يا أمير المؤمنين لو ركبت ـ في نزهة ـ فَتَرَوَّحْتَ! أجابهم: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم؟ قال: تجزيه من الغد، أجاب عمر: فَدَحَني عمل اليوم، فكيف إذا اجتمع عليَّ عملُ يومين".. كما كان يعمل على سرعة تصريف الأمور، وكان يضيق بالعامل الذي لا يحسن التصرف أو ما نسميه اليوم بالبيروقراطي، الذي يحب أن يراجع رؤساءه في كل كبيرة وصغيرة، فقد كتب إلى عامله على المدينة: " أن قَسِّمْ في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار؛ فكتب إليه: إن عليًا قد وُلِدَ له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده؟ فكتب إليه: لو كتبت إليك في شاة تذبحها لكتبت إليَّ، أسوداء أم بيضاء؟ إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد علي من فاطمة ـ رضوان الله عليهم ـ عشرة آلاف دينار فطالما تخطتهم حقوقهم".. وكان عمر بن عبد العزيز غير راضٍ عن الأسلوب الذي يدير به بعض عمال بني أمية أمور الدولة، أو لا يتفق أسلوبهم الإداري مع نهج عمر، مثل يزيد بن المهلب وآله، الذين كان عمر يقول عنهم: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، ولكن هؤلاء كانوا رجال سليمان بن عبد الملك فأبقى عليهم، فلما آلتِ الخلافة إلى عمر قرر أن يقصي كل عامل لا يرتاح إليه؛ فعزل يزيد بن المهلب وأمثاله، وانتقى أفضل وأصلح الرجال وولاهم الأعمال، ويبدو جليًا من اسعراض أسماء الولاة والقضاة، وسائر الموظفين الذين اختارهم عمر بن عبد العزيز، حرصه على الاعتماد على أكثر العناصر كفاءة وعلمًا وإيمانًا وقبولاً لدى جماهير المسلمين. ولم يكن عمر يكتفي بحسن الاختيار بعد الابتلاء بل كان يتابع عماله ويرسم لهم المنهج الذي ينبغي عليهم أن يطبقوه ليقيموا العدل بين الناس؛ فقد كتب إلى عامله على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: "سلام عليك، أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله ولا تعجل دوني بقطع ولا صَلْب، حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد أن يحج من الذرية؛ فعجِّل له مائة يحج به، والسلام".. هكذا عمل عمر على إزالة كل أثر من الآثار التي تراكمت من قبل ولم يكن راضيًا عنها، أو كان يرى أنها تنافي روح الإسلام، ولما كان هو نفسه أميرًا من أمراء بني أمية فقد آلت إليه أموال وهدايا كان يرى أنه لم يكن يستحقها، فبدأ بنفسه ورد ما أخذه إلى بيت المال، ثم ثنى بأقربائه واستقصى أموالهم فما رأى أنه أُخِذَ به بدون وجه حق، أخذه ورده إلى بيت المال، ولم يقبل في ذلك مناقشة أو شفاعة من أحد، فقد رفض شفاعة عمته فاطمة عندما وَسَّطُوها عنده لتشفع لهم. ومن الآثار السيئة التي وجدها عمر وحرص على إزالتها بكل عزم وتصميم ظاهرة أخذ الجزية من الذين أسلموا حديثًا، فقد كان بعض عمال بني أمية لما أعوزهم المال بسبب الحروب والثورات، أبقوا الجزية على من كانوا يدخلون في الإسلام من أبناء البلاد المفتوحة وزعموا أن إسلام هؤلاء لم يكن صادقًا، وأن إعفاءهم من الجزية قد أضرَّ ببيت المال، وابتدعوا بدعة اختبار من أسلموا بالختان ولكن عمر حذرهم من ذلك، فقد كتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي ـ والي خراسان :"انظر من صلَّى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية؛ فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفورًا من الجزية، فامتحنهم بالختان، فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب عمر إليه: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم هاديًا ولم يبعثه خاتنً، وعزل الجراح عن خراسان وولى عبد الرحمن بن نعيم القشيري، ثم ولى على الخراج عقبة بن زرعة الطائي، وكتب إليه: "إن للسلطان أركانًا لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب المال ركن، والركن الرابع أنا، وليس ثغر من الثغور المسلمين أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان؛ فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافًا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإذًا فاكتب إليَّ حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم.. فالمال مهم، ولكن العدل أهم عند الخليفة عمر لأن المال وجبايته عنده وسيلة، وليست غاية.وقد يكون من الصعب استقصاء إصلاحات عمر بن عبد العزيز المالية والإدارية، ولكن يكفي أن نقول على وجه الإجمال: إن سياسته المالية قضت على الفقر، وحققت التوازن بين الناس، حتى لم يعد هناك فقير يحتاج إلى الصدقة، فيروي الذهبي عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمر بن أسيد قال: "والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون فما يبرح حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس".. ولما كان عمر يعتبر نفسه مسئولاً عن الأمة كلها، فليس هناك أحد أولى به من أحد، وفي ضوء هذا التصور نظر إلى الخوارج، الذين ناصبوا الدولة الأموية العداء منذ قيامها، ولم يكد صراعهم معها ينقطع، وأدرك عمر أن هؤلاء الناس قد يكونون طلاب آخرة، ولكنهم قد أخطأوا الطريق إليها؛ فجاهدوا في غير ميدانها؛ وبددوا طاقاتهم وطاقات الدولة في حروب داخلية، لا طائل من ورائها بل كانت لها آثارها السيئة عليهم وعلى الدولة، فرأى من واجبه أن يبصرهم بخطأ موقفم فدعاهم إلى محاورته، فاستجابوا، وأرسل له زعيمهم شوذب الخارجي اثنين من أتباعه، ليحاوراه، وبدأ عمر الحوار قال لهم: "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لدنيا ولكنكم أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها، وإني سائلكم عن أمور فبالله لتصدقنني عنها، وبدأ يسألهم وهم يجيبون، وظهرت حجته عليهم في جميع القضايا التي أثاروها إلا مسألة واحدة، وجد عمر نفسه عاجزًا عن تبريره، وهي ولاية العهد ليزيد بن عبد الملك فطلب منهم أن ينظروه ليفكر في الأمر، ورضي الرجلان بذلك، وقال له أحدهما: ما سمعت كاليوم حُجَّةً أبين وأقرب مأخذًا من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأنا بريء ممن بريء منك، وأقام عند عمر ورفض العودة إلى الخوارج، أما الآخر فسأله عمر: فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسنَ ما قلتَ وأبينَ ما وصفتَ، ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر حتى أعرض قولك عليهم فأنظر ما حُجَّتُهم. ولكن بقيت هذه المسألة معلقة دون حلٍّ؛ لأن عمر لم يكن قادرًا على تنحية يزيد من ولاية العهد، خوفًا من الفتنة في بني أمية، كما أن الأيام لم تمهله حتى نرى ما كان سوف يضع فقد مات رحمه الله بعد ذلك بقليل، لكن ما يهمنا الآن هو الأسلوب الجديد الذي واجه به عمر الخوارج، والذي كان من أثره فيهم أنهم لم يثوروا عليه، وهذا يبين أن هؤلاء القوم كانوا على غير هدى من الله يحتاجون إلى علاج، ولعلهم بعد ما لحق بهم من ضربات كانوا على استعداد للاندماج في الأمة لو وجدوا بعد عمر من يواصل أسلوبه معهم ولكن أني للخلافة مثل عمر... سياسته الخارجية كما كان لعمر بن عبد العزيز وقفته في السياسة الداخلية، ليعيد ما اعوج من الأمور إلى نصابه، ويحاول إصلاح ما رآه انحرافًا عن الجادة سواء في الناحية الإدارية أو المالية أو غيرها، كذلك كانت له وقفة مماثلة في السياسة الخارجية فقد رأى أن مساحة الدولة قد اتسعت، وأن أطرافها قد ترامت وتباعدت، ولعل كثيرًا من المشاكل والأخطاء التي وقع فيها بعض الولاة قد نشأت عن هذا الاتساع الكبير في مساحة الدولة، فكل إقليم كان يضيف إلى مشاكل الدولة عبئًا جديدًا، فرأى أنه من الحكمة إيقاف الفتوحات، أو الحد منها على الأقل، لأن التوقف عند حدود ما فتح من بلاد وأقاليم، والعمل على حَلِّ مشاكلها، وعرض الإسلام عليها بأسلوب حكيم دقيق، وقدوة حسنة، سوف يكون أجدى من المضي في الفتوحات، بل ربما لا تكون هناك حاجة بعد ذلك إلى فتح جديد، لأن الناس سيقبلون على الإسلام من تلقاء أنفسهم، لأنهم سيجدون فيه كل ما يرضيهم، روحيًا وماديًا، وما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد تحقق ما تصوره في ذلك وزادت حركة الإقبال على الإسلام في البلاد المفتوحة في عهده زيادة كبيرة وأخذ عمر في إرسال الدعاة من خِيرَة العلماء ليدعوا الناس إلى الإسلام، بدلاً من إرسال الجيوش للفتح، كما بدأ يرسل الكتب إلى الملوك والأمراء المعاصرين يدعوهم إلى الإسلام فأرسل إلى أمراء ما وراء النهر، وإلى ملوك السند، يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم على بلادهم ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلما وصلتهم رسائله وكانت قد بلغتهم سيرته وعدله، فقبلوا وأسلموا، وتسموا بأسماء عربية.. كما أرسل إلى إمبراطور الدولة البيزنطية يدعوه إلى الإسلام، بعد أن خشي على المسلمين؛ فأمر بإعادة الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية دون جدوى منذ عهد سليمان بن عبد الملك. ولقد تمتع الخليفة عمر بن عبد العزيز بسمعة طيبة، تجاوزت حدود الدولة الإسلامية فتروي المصادر التاريخية أنه حينما وصل الوفد الذين أرسلهم عمر إلى إمبراطور الروم لدعوته إلى الإسلام جاءت الأخبار إلى الإمبراطور من عيونه بوفاة عمر، فأرسل يستدعي رئيس الوفد، فلما مَثُلَ بين يديه سأله الإمبراطور: " أتدري لم بعثت إليك؟ قال: لا. فقال: إن صاحب مسلحتي كتب إليَّ أن الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز مات، قال: فبكيت واشتد بكائي، وارتفع صوتي، فقال لي: ما يبكيك؟ ألنفسِك تبكي أم له أم لأهل دينك؟ فقال: لكلٍّ أبكي قال: فابكِ لنفسك، ولأهل دينك، أما عمر فلا تبكِ عليه، فإن الله لم يكن ليجمع عليه خوف الدنيا وخوف الآخرة، ثم ما قال: ما عجبت لهذا الراهب الذي تعبَّدَ في صومعته وترك الدنيا، ولكن عجبت لمن أتته الدنيا منقادة، حتى صارت في يده ثم تخلى عنها". ثم يضيف الإمبراطور: "ولقد بلغني من بِرِّه وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى، لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنًا وظاهرًا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدً، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه".. وفاة عمر بن عبد العزيز: لم تطل حياة عمر بن عبد العزيز طويلاً فقد اختطفته يد المَنُون ولم يتجاوز الأربعين من عمره، ويبدو أن انهماكه في أمور المسلمين ومتابعة السهر والعمل في شئون الدولة، وعدم اهتمامه بأمر طعامه وشرابه، قد أثَّر على صحته فلم يعد جسمه يقوى على المقاومة والاحتمال. وأما ما يرويه بعض المؤرخين من أن بعض بني أمية دَسَّ له السم فهذا أمر لم يقمْ عليه دليل، ويبدو أن هذا لم يكن سوى شائعة من تلك الشائعات التي رَوَّجَ لها أعداء بني أمية، فقد اتهموا معاوية رضي الله عنه بأنه دس السم للحسن بن علي وللأشتر النخعي، ولعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأن سليمان بن عبد الملك صنع هذا أيضًا مع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية. على أية حال توفي عمر بن عبد العزيز في شهر رجب سنة 101هـ، وكانت وفاته بدير سمعان من أعمال حمص، وتولى الخلافة بعده ابن عمه يزيد بن بد الملك.. يزيد بن عبد الملك 101-105هـ هو يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو خالد القرشي الأموي، أمير المؤمنين. وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية.. وُلِدَ بدمشق سنة 72هـ على أرجح الأقوال.. أولاً: حياته قبل الخلافة: كان قبل خلافته محبوبًا في قريش، بجميل مأخذه بنفسه، وهديه وتواضعه وقصده، وكان الناس لا يَشُكُّون إذا صار إليه الأمر أن يسير بسيرة عمر لما ظهر منه، وقد تلقى تربيته على علماء أهل الدين والفضل فكان منهم الضحاك بن مزاحم، وعامر بن شراحيل، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر والزهري وهؤلاء العلماء اختارهم عبد الملك لتربية أولاده، وقد تأدب يزيد على يد إسماعيل بن أبي المهاجر والزهري، وكان يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، ويغشى مجالسهم، ويحضر حلقاتهم ويـتأدب بآدابهم، ويصغي لكلامهم، ويقبل توجيهاتهم، ويأخذ العلم عنهم، وشيوخه الذين تلقى عنهم العلم: مكحول الزهري في الشام، والمقبري وابن العتاب من علماء المدينة، وعلى ما يبدو أنه بلغ درجة رفيعة من العلم، وبخاصة حفظ الحديث وروايته مما جعل بعضهم يعده من المحدثين، وعن ابن جابر قال: أقبل يزيد بن عبد الملك إلى مجلس مكحول، فهممنا أن نوسع له؛ فقال: دعوه يتعلم التواضع، وقد كان رأي عمر بن عبد العزيز فيه حسنًا. ثانيًا: توليه الخلافة: بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك، أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز.. وسار في بادية حكمة بسيرة عمر بن عبد العزيز، إلا أنه لم يستطع المواصلة، قال عنه الذهبي: وكان لا يصلح للإمامة، مصروف الهمة إلى اللهو والغواني، وقال عنه ابن كثير: فما كان به بأس، يقول الدكتور عبد الله الشريف".. لكن الواضح أن درايته السياسية وكفاءته الإدارية، لم تكن تؤهله لملء مكانه، وقيادة الدولة أو تحقيق العظيم من المنجزات، والفريد من السياسات التي تلفت إليها الأنظار، فكان يزيد حاكمًا عاديًا ليس سياسيًا مقتدرًا كمعاوية، أو إداريًا ناجحًا كعبد الملك، أو مصلحًا كعمر، كما لم يكن مسيئًا كابنه الوليد بن يزيد، ويمكن القول إن توليته الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز جعل المفارقة بينه وبين عمر واضحة وكبيرة، وأدت إلى عتامة صورته لدى جمهرة المسلمين.. وكان بإمكان يزيد أن يسير على نهج تجربة عمر بن عبد العزيز، ويعطي العلماء دورهم القيادي المنوط بهم كما كانوا في عهده، إلا أن العلماء تراجعوا إلى حَدٍّ كبير، وحُرِمت الأمة من تجربة ناجحة تنفست بها الصعداء، وأطلت من خلالها على عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ولعل هذا التراجع الذي حدث لمشاركة العلماء في عهد يزيد يرجع إلى عدة عوامل أهمها: 1ـ شخصية يزيد بن عبد الملك، حيث لم يكن بمكانة عمر وحماسته وحرصه على أن يسوس الناس بمنهج الله بلا محاباة ومساومة، كما لم يكن على منهج عمر في نظرته للخلافة على أنها تكليف لا تشريف، وأنها عمل لإسعاد غيره على حساب نفسه وأهله، ويدل على ذلك أن يزيد لم يُطِقْ أن يسير على نهج عمر أكثر من أربعين يومًا، ثم عدل عنه إلى نهج الملوك.. 2ـ العامل الثاني مترتب على الأول ومرتبط به، إذ لما رأى العلماء عزم يزيد ترك العمل بسيرة عمر، ولم يجدوا عنده ما وجدوه عند عمر، تركوه وانصرفوا إلى مسؤلياتهم العلمية، فحين قال قائل لرجاء بن حيوة لما اعتزل يزيد: إنك كنت تأتي السلطان فتركتهم! قال: إن أولئك الذين تريد قد ذهبوا"، وأما ما ورد من أن يزيد تخلَّى عن السير على نهج عمر لأنه شهد له أربعون شيخًا بأن ليس على الملوك حساب ولا عذاب فهذا ادِّعاء أوهَى من أن يُرَدَّ عليه؛ فهو يتضمن في طياته الرد على مختلقه، فمن هم الشيوخ الذين شهدوا بذلك الزور؟!! ثم إنه يتعلق بأمر من ضروريات الإيمان وبديهياته، فأي مسلم ـ مهما بلغ به الجهل مبلغه ـ يعلم أنه يُسأل عن أعماله، ويجازَى عليها، والحديث الصحيح: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"..مشهور عند عامة المسلمين ـ فضلاً عن خاصتهم ـ في هذه العصور المتأخرة، فكيف بعصر صدر الإسلام؟!! ولكن حقيقة الأمر فيما ذكره ابن كثير قال: "فلما ولي يزيد عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسَّنُوا له الظلم".. تشويه صورته بالجواري في كتب التاريخ: صورت كتب التاريخ يزيد بن عبد الملك بصورة الخليفة اللاهي عن مصالح دولته لاهثًا خلف جارية، ولما ماتت إحداهما رفض أن يدفنها وظل مقيمًا بجوارها حتى جَيَّفت ولما دفنوها عاد ينبشها من جديد، وفي أسانيد هذه الروايات غير واحد من المجهولين، وقصة يزيد مع جاريته في الأصل بسيطة كما يبدو، فهما جاريتان جميلتان ظريفتان مغنيتان اشتراهما يزيد بعد استخلافه، فملكتا عليه قلبه، خصوصًا حُبابة التي كَلُفَ بحبها، واشتد طربه لغنائها، فحظيت عنده، فلما ماتت حزن لموته، وجزع عليه، ولم يطل العمر به بعدها حيث مات بعدها بأيام معدودة بالطاعون ـ أو كان مرض السُّل ـ وقد أغمض كثير من المؤرخين القول بموته مطعونًا أو مسلولاً، وجعلوه كمدًا وأسفًا على فَقْد حُبابة، مع أنه من غير المستبعد موته بسبب الطاعون أو السل، بل هو الأولى، فكثيرًا ما انتشر وباء الطاعون وغيره من الأوبئة في حواضر الشام كدمشق، فكان ذلك من الأسباب التي دعت الخلفاء الأمويين إلى بناء القصور في بوادي الشام. إن قصة يزيد مع جاريته جاءت في المرويات التي تناولتها مهولة مشوهة، اعتراها كثير من المبالغة والاضطراب والتناقض والزيادة، بل والاختلاق فمنها ما يشير إلى تلك القصة باتزان، ومنها ما شابهه بما لا يقبل ولا يعقل، ومنها ما ظهرت فيه الإساءة والطعن بتحريف أو زيادة أواختلاق؛ فجاءت تلك المرويات تحمل العجب والمنكر، وذلك إما لهوى في نفس راويه، وإما لغرض يقصده ناقلها، أو نقلها مسندة فحمَّل المسئولية من رواها.. انتصار يزيد بن عبد الملك لفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: في ربيع الأول عام 104 هـ عزل يزيد بن عبد الملك عن إمرة الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان سببه أنه خطب فاطمة بنت الحسين، فامتنعت من قبول ذلك، فألح عليها وتوعدها، فأرسلت إلى يزيد تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النضري نائب الطائف فولاه المدينة، وأن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صوته أمير المؤمنين وهو متكيء على فراشه بدمشق، وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار فلما بلغ ذلك عبد الرحمن ركب إلى دمشق، واستجار بمسلمة بن عبد الملك؛ فدخل على أخيه فقال: إن لي حاجة، فقال: كل حاجة تقولها فهي لك إلا أن تكون ابن الضحاك، فقال: هو والله حاجتي؛ فقال: والله لا أقبلها ولا أعفو عنه، فرده إلى المدينة؛ فتسلمه عبد الواحد فضربه وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوف؛ فسأل الناس بالمدينة - وكان قد باشر ولاية المدينة ثلاث سنين وأشهرًا - وكان الزهري قد أشار على الضحاك برأي سديد، وهو أن يسأل العلماء إذا أُشْكِلَ عليه أمرٌ؛ فلم يقبل ولم يفعل؛ فأبغضه الناس وذمَّه الشعراء، ثم كان هذا آخر أمره.. سياسة يزيد بن عبد الملك الإدارية والمالية: تولى يزيد بن عبد الملك أمر المسلمين بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فسار بسيرته برهة من الزمن، ثم ترك نهجه واتخذ نهجًا آخر تابع فيه كثيرًا من سياسات أسلافه من بني أمية الإدارية والمالية، وخالف عمر بن عبد العزيز في بعض تجديداته وإصلاحاته خاصة في المجال المالي. وبتفحص الروايات عن شخصية يزيد وسياسته يتبين أن الاختلاف بين شخصيتي يزيد وسلفه عمر هو الذي كان وراء الاختلاف بين سياسة الرجلين؛ فقد غلب على عمر بن عبد العزيز الوازع الديني فاتسمت سياسته بالروح الإسلامية، مما دفعه إلى تطبيق السياسة الإسلامية على نظم الحكم، كما فاقه عمر من حيث القدرة و الكفاءة الإدارية والحضور الدائم، والانصراف إلى العمل، وتحمل المسئولية.. والحق أن يزيد بن عبد الملك لم يدع الأمور تجري بلا ضابط، فلم يكن بالبعيد عن إدارة دفة الحكم، فسنجده وراء الكثير من الأحداث يعالجها ويوجهها ويخطط لها، لكنه لم يعط كل جهده ووقته واهتمامه لشئون دولته كما كان يفعل سلفه عمر، ومع ذلك فقد حرص على بقاء دولته مهابة مصونة في الداخل والخارج، وإن كان قد اتخذ في سبيل تحقيق ذلك سياسات تخالف نهج سلفه عمر،قال ابن تغري بردي: غير أنه لما ولي الخلافة يزيد بعد عمر بن عبد العزيز غيَّر غالب ما كان قرره عمر، وقال: ثم عزل جماعة من العمال.. فلم يقل: غير كل ما قرره عمر، أو عزل جميع عماله، ويبدو جليًا أن الخليفة يزيد لم يكن يملك الرؤية البعيدة، ولم يعمل وفق استرايجية مرسومة، كما يظهر أنه لم يُحِط بظروف دولته بعد حركة الفتوح الكبرى التي تمت في عهد أسلافه، وأهمية استيعاب الدولة للمتغيرات التي تعيشها من جَرَّاء دخول أجناس ومذاهب مختلفة متباينة، كان على الدولة صهرها في جسم الأمة ونشر الدين الإسلامي بينه، وهذا ما لمسه عمر بن عبد العزيز وسعى إليه، إلا أن الخليفة يزيد لم يدرك ذلك فعاد إلى سياسة من سبق عمر من خلفاء بني أمية وذلك عن طريق العودة إلى تنشيط حركة الفتوح وضرب المعارضة بكل قوة، وإهمال الإصلاح الداخلي وعدم الاهتمام بصهر القوى الجديدة في أمة الإسلام وتطبيق الإحكام الإسلامية عليهم، وللحق فإن سياسة يزيد وحده لم تكن وراء الوهن الذي أصاب دولة بني أمية، لكنه بعدم إدراكه ما تحتاجه الدولة في تلك المرحلة من إصلاح، وما تعيشه من متغيرات، استمر في سياسة أسلافه قبل عمر، وأدار ظهره للكثير ما صنعه عمر، فاستمر الوهن في عهده، وجرت بعض سياساته بالدولة نحو هاوية الانهيار، وإن كان هذا الوهن والتدهور لم يظهر جليًا في زمنه بل استطاع الإبقاء على حدود دولته مصونة وكيانها مهابًا، فظل ينخر في جسم الدولة متواريًا، حتى ظهر ذلك متأخرًا فيما بعد.. الثورات الداخلية في عهد يزيد بن عبد الملك 1ـ ثورة يزيد بن المهلب: عندما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة خرج عليه يزيد بن المهلب، وخلع بيعته واستولى على البصرة؛ فجهز يزيد بن عبد الملك لقتاله جيشًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، فجمع يزيد بن المهلب جموعًا كبيرة، والتقى الطرفان بالعقر من أرض بابل، ودارت بينهما معركة رهيبة دامت ثمانية أيام قُتِلَ فيها يزيد بن المهلب، وعدد من إخوته، وخلق كبير من جيشه، وتفرق سائر جيشه وأهل بيته فلُوحِقوا وقُتِلُوا بكل مكان وكان ذلك سنة 102هـ. 2ـ حركات الخوارج: حركة شوذب: ما إن تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة حتى تجددت حركة شوذب الخارجي، وتم القضاء عليه وعلى أصحابه على يد مسلمة بن عبد الملك أثناء سيره للقضاء على حركة بن المهلب، فإنه لما دخل الكوفة شكا إليه أهلها شوذب وخوفهم منه؛ فجهز جيشًا من عشرة آلاف جعل قيادته لسعيد بن عمرو الحرشي، ووجهه إليهم فدارت سنة 101 هـ الوقعة وتم القضاء على شوذب وكل أصحابه. حركة مسعود العبدي في البحرين واليمامة: وقد تم القضاء عليها على يد سفيان بن عمرو العقيلي أمير اليمامة، وكان القضاء عليها في أواخر عهد يزيد على قول البعض، وهناك من يرى أن الحركة في عهد يزيد كانت على يد أخِ مسعود العبدي. حركة مصعب الوالبي: خرج مصعب الوالبي بالكوفة، وتم القضاء عليه في عهد يزيد بن عبد الملك بواسطة عامله ابن هبيرة. حركة عقفان: خرج عقفان الحروري على يزيد بن عبد الملك بناحية دمشق وكان عدد أصحابه ثمانين رجلاً من الخوارج وعندما أراد يزيد القضاء عليه عسكريًا، أُشِيرَ عليه أن يبعث إلى كل رجل من أصحاب عقفان رجلاً من قومه يرده عن رأي الخوارج، على أن يؤمنهم الخليفة، فقد قالوا للخليفة: إن قُتِلَ هؤلاء بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، فوافقهم الخليفة على رأيهم، وسار إليهم أهلوهم وقالوا لهم: إنا نخاف أن نؤخذ بك، وأَمَّنوهم فرجعوا عن رأيهم وانفضوا من حول زعيمهم عقفان، فبقى وحده فأرسل إليه يزيد أخاه فاستعفه وأمَّنه، فردَّه وقد ترك رأي الخوارج، بل إنه خدم الدولة فتولى زمن هشام أمر العصاة، ثم استعمل على الصدقة حتى توفي هشام. 3ـ حركة شريم اليهودي: وهو يهودي سوري أعلن أنه المسيح المنتظر والمنقذ لليهود، وسير حملة لانتزاع فلسطين من المسلمين، فغادر يهود بابل وأسبانيا موطنهم ليشتركوا في هذه المغامرة، إلا أن القائم بها أُسِرَ، وعرضه الخليفة يزيد بن عبد الملك على الناس على أنه مهرج دجال، ثم أمر به فقُتِل.. الفتوحات في عهد يزيد بن عبد الملك نشطت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك بعد حالة الاستقرار التي عاشتها أيام سلفه الخليفة عمر بن عبد العزيز، والذي لجأ لذلك في شيء من التوازن من أجل التفرغ لحركة الإصلاح الكبرى التي شهدها عهده، وكانت حركة الفتوح على الجبهات كالتالي: 1ـ الفتوحات في بلاد ما وراء النهر: أوقف عمر بن عبد العزيز حركة الفتوحات في بلاد ما وراء النهر، وكان الباعث على هذه السياسة هو نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة بدلاً من الجهاد الحربي، ومع ما لهذه السياسة من إيجابيات كإسلام بعض ملوك وأهالي هذه المناطق، إلا أنها أطمعت آخرين في المسلمين، وحفزتهم على التمرد وشق عصا الطاعة، فقد تمرد الصغد على سلطان المسلمين، وهاجم الترك البلاد وعاونوا الصغد منذ أيام عمر بن عبد العزيز خلال ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي (100 ـ 102هـ) وظلت مستعرة الأوار حتى ولاية سعيد بن عبد العزيز الحرشي (102 ـ 103هـ) الذي تولى خراسان من قِبَلِ الخليفة يزيد بن عبد الملك الذي كان عليه إخماد ذلك التمرد، وبعد سلسلة من المعارك خاضها سعيد بن عبد العزيز إبان حملته على ما وراء النهر ما بين عامي (103 ـ 104 هـ قضى على حركات التمرد من جانب الصغد والترك، وأعادهم إلى الاعة صلحًا أو عنوة، وبذلك استعاد المسلمون سيطرتهم التامة على تلك المنطقة من جديد. ولم يدم للمسلمين ما حققه سعيد الحرشي من تمكن وسيادة فيما وراء النهر؛ فقد تحول المسلمون من دور الهجوم إلى الدفاع في ولاية مسلم بن سعيد الكلابي على خُراسان(106:104هـ)، فقد غزا الأخير الترك فيما وراء النهر سنة 105هـ فلم يفتح شيئًا وعاد أدراجه، بل إن الترك تعقبوه فلحقوا به، وهو يعبر نهر جيحون بجنده. وقد كانت هذه الحملة آخر الغزو وفي عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك وهي في ظاهرها حملة ناجحة، وإن لم تحقق مكاسب جديدة، إلا أن لحاق الترك بمسلم وتعقبه كان فيه دلالة على طمع الترك بهم، وبداية لضعف سيطرة المسلمين على ما وراء النهر، وعودة الاضطراب إليها. 2ـ الفتوح في أرمينية: استؤنفت الحملات العسكرية المنظمة إلى الثغور في عهد يزيد بن عبد الملك، وقد أشار الطبري وغيره إلى إغارة قام بها الترك سنة 103هـ على اللان، ومنها يتبين عوده الخزر إلى التحرش بالمسلمين ومهاجمة ممالكهم في أرمينية، وهذا ما دفع أمير أرمينية ـ آنذاك ـ معلق بن صفار البهراني إلى القيام بحملة على الخزر؛ فلقيهم بمرج الحجارة في رمضان في نفس العام ولكنه هزم، مما أطمع الأقوام القوقازية والتركية في المسلمين؛ فاندفعوا نحو الحدود الأرمينية وشنوا غاراتهم وتوغلوا في البلاد؛ مما دعا الخليفة يزيد بن عبد الملك إلى استعمال الجراح بن عبد الله الحكمي على أرمينية وأذربيجان سنة 104هـ وأسند إليه مهمة صد الخزر، وأَمْرَ حربهم، وأمده بجيش كبير، وأمره بحرب الأعداء وقصد بلادهم وما أن سمع الخزر بمقدم الجراح حتى ارتدوا عن البلاد الإسلامية التي كانوا قد استولوا عليها، وانسحبوا عائدين حتى نزلوا مدينة باب الأبواب وعندما وصل الجراح إلى مدينة باب الأبواب وجدها خالية؛ فبث سراياه على ما يجاوره من البلاد فنصروا وغنموا. ويبدو أن ما حققه المسلمون من نصر ومغانم أثار الخزر فتوجهوا إلى الجراح في أربعين ألفًا بقيادة ابن ملكهم ويدعي "نارستيك" ابن خاقان أما المسلمون فكانوا خمسة وعشرين ألفًا بقيادة الجراح والتقى الفريقان على نهر الران سنة 104هـ بعد معركة عظيمة نصر الله المسلمين وهزم الخزر، وتم إخضاع تلك المناطق لحكم المسلمين وسيادتهم.. كما فتح الجراح حصن "بلنجر" سنة 104هـ عنوة، وأصاب المسلمون غنائم عظيمة أصاب الفارس منها ثلاثمائة دينار، أما صاحب بلنجر فقد تمكن من الفرار مع خمسين من قومه، فبعث الجراح إليه بالأمان ورد إليه حصنه وأهله وأمواله ليكون صنيعة للمسلمين وعينًا لهم على أعدائهم، ثم واصل الجراح فتوحاته، وتوجه إلى حصن "الوبندر" وصالح أهله ثم رجع بجيشه إلى "شكى" بعد سماع أخبار من صاحب "بلنجر" تتعلق باجتماع الخزر لحربه، وبعد نزوله "شكى" كتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك بما فتح الله على يديه، ذاكرًا له اجتماع الخزر لحربه كما سأله المدد إليه، وبعد مجيء هشام بن عبد الملك حرص على إكمال ما بدأه سلفه، فأقرَّ الجراح على ولاية أرمينية وأمده بما يمكِّنه من صيانة الثغور، ودفع الأعداء عن ديار الإسلام. 3ـ الفتوح في أرض الروم: تمثلت الجهود العسكرية- التي نمت في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك ضد الروم- في تحصين الثغور وشحنها وصيانة الحدود والدفاع عنها، والفتح برًا عن طريق الصوائف والشواتي، وما تم خلال ذلك من فتوحات في آسيا الصغرى، والغزو بحرًا لجزر الحوض الأوسط والغربي من البحر المتوسط عن طريق إفريقية-وقد كان عهد يزيد بن عبد الملك خاليًا من الحملات العسكرية الكبرى ضد البيزنطيين-وفي معاودة التفكير في فتح القسطنطينية عاصمتهم العتيقة، وإن كانت الصوائف الصوائف والشواتي التي وُجِّهَت لآسيا الصغرى قد حفلت بكثير من الانتصارات، وفتح كثير من المدن والمواقع الرومانية.. 4ـ الجهاد في البحر المتوسط: تابع ولاة إفريقية من قبل الخليفة يزيد بن عبد الملك جهود من سبقهم من أمراء الشمال الأفريقي، فقد قام يزيد بن أبي مسلم أمير أفريقية (101 ـ 102هـ) بغزو جزيرة صقلية سنة 101هـ، كما وجه مِن قِبَلِه سنة 102 هـ محمد بن أوس الأنصاري في غزوة بحرية إلى صقلية فعادت الحملة سالمة غانمة، وكان سبب تركيز أمير أفريقية على صقلية لأهميتها بالنسبة للروم، وهي محاولة لضرب تلك القاعدة البيزنطية المهمة، وتهديدًا للأعداء وإشغالهم عن مهاجمة الساحل الإفريقي، وأما ولاية بشير بن صفوان على إفريقية (102 ـ 109هـ) فقد كانت حافلة بالغزوات البحرية على جزر سردينية وكورسيكا وصقلية. ومن غزواته في خلافة يزيد بن عبد الملك الحملة التي وجهها بقيادة يزيد بن مسروق اليحصبي إلى جزيرة سردينية سنة 103 هـ فكان نصيبها النجاح حيث غنم المسلمون وسلموا. 5ـ الفتوح في بلاد الغال: بلاد الغال: تعني عند العرب الأرض الواقعة بين جبال البرتات (البرينة) وجبال الألب والأوقيانوس، ونهر ألبا وملكة الروم، وهذا المفهوم ينطبق على فرنسا أيام شارلمان، وأممها تتحدث بعدة لغات. شهد عصر الخليفة يزيد بن عبد الملك حملة من أهم الحملات التي قام بها المسلمون لفتح بلاد الغال عن طريق الأندلس، وهي الغزوة التي التي قادها السمح بن مالك الخولاني (101 ـ 102هـ) إلى تلك الأصقاع. وفي معركة غير متكافئة حيث بلغ جيش الفرنج عشرة أضعاف جيش المسلمين، أبدى فيها المسلمون من ضروب الشجاعة والإقدام ما لا يتصوره عقل، استُشهِد السَّمْح بن مالك سنة 102هـ في معركة "طولوشة" فأُسْنِدَتْ قيادة الجيش إلى أحد كبار الجند وهو "عبد الرحمن الغافقي" الذي نجح في الانسحاب بالجيش في مهارة حرمت الفرنج من تعقب المسلمين وإصابتهم في حالة التقهقر حتى وصل "أربونة".. استمر عبد الرحمن الغافقي أميرًا للأندلس بتقديم أهل الأندلس له منذ استشهاد أميرهم السمح بن مالك الخولاني حتى قدوم عنبسة بن سحيم الكلبي أميرًا للأندلس من قبل بشر بن صفوان عامل الخليفة يزيد بن عبد الملك عى إفريقية والمغرب، وذلك في سنة 103هـ، وكان عنبسة من طراز السمح بن مالك رجلاً تقيًا وإداريًا بارعًا وعسكريًا فذًا، وكان حريصًا على الإسلام وأمينًا على دولته، فكان خير خلف لخير سلف، لقد شغل الأمير الجديد صدر ولايته بضبط الأمور في الأندلس، وإخماد الفتن فيها، ومن ذلك توجهه إلى المنطقة الشمالية في الأندلس للقضاء على حركة "بلاي" وإخماد التمرد الذي قام به "أخيلا بن غطيشة" في مدينة طركونة حتى استقام له أمرها، ثم أعد نفسه للجهاد وباشر الفتح فيما وراء البرتات بنفس، وكان بداية ذلك سنة 105هـ وهو ما أخذ به أكثر المؤرخين، وبذلك يكون الإعداد والتجهيز لهذه الحملة قد تم في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وقد يكون خروجها قد تم في أواخر زمنه ـ أيضًا ـ أما ما تم على يد عنبسة من فتوحات في بلاد الغال فإن ذلك قد حدث في خلافة هشام بن عبد الملك. وفاة يزيد بن عبد الملك: قيل إن يزيد مرض بالسل ومات يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة 105هـ بسواد الأردن، وقيل: إنه مات بالجولان، وقيل: بحوران، وصلَّى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وقيل: صلَّى عليه أخوه هشام بن عبد الملك وهو الخليفة من بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دُفِنَ بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق ، وكان قد عهد بالأمر من بعده لأخيه هشام ومن بعده لولده. هشام بن عبد الملك 105-125هـ هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي أمير المؤمنين، وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي. وُلِدَ هشام بن عبد الملك ـ على القول الراجح ـ سن 72هـ، وسماه عبد الملك منصورًا لانتصاره على مصعب في تلك السنة. قضى هشام الشطر الأخير من طفولته في منزل الخلافة الأموي بالشام في أواخر حكم أبيه وإخوته من الخلفاء وكان هشام مغمورًا في البلاط الأموي زمن أخويه الوليد وسليمان، وقد بقي بعيدًا عن مسرح الأحداث نسبيًا حتى توليه الخلافة سن 105هـ، وهو الرابع من ولد عبد الملك لصلبه الذين ولوا الخلافة. كان هشام في خلافته حازم الرأي جماعًا للأموال، وكان ذكيًا مدبرًا، له بعد للأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة، قال فيه الذهبي: كان عاقلاً حازمًا سائسًا فيه ظلم وعدل. تولى هشام بن عبد الملك الخلافة بعهد من أخيه يزيد سنة 105هـ ،وكان هشام يُعَدُّ من ساسة بني أمية المشهورين، كان شديد المراقبة لعماله ودواوينه، وقد شهد له بجدارته أحد خصومه فقال عبد الله بن علي بن العباس: جمعت دواوين بني مروان فلم أَرَ ديوانًا أصح ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام. نبذة عن حياته: وُصِفَ هشام بالبخل وجمع المال، قال الجاحظ: كان هشام يقول: ضع الدرهم على الدرهم يكون مالاً، ويبدو أن السبب في هذا الوصف شدة مراقبته للمال العام، فقد كان شديد المحاسبة للمشرفين على الديوان وحريصًا على مال المسلمين، ولذلك وصفه الشعراء والكُتَّاب بالبخل؛ لأن الشعراء اعتادوا الهبات الكبيرة من ملوك بني أمية. اتهامه بشرب الخمر: جاءت روايات لا يصح إسنادها تشير إلى أن هشام بن عبد الملك كان يشرب الخمر كل يوم جمعة بعد الصلاة، وكانت له مجالس يدار فيها الخمر، فإن تلك الروايات لا تصح من حيث السند، كما أن سيرة هشام منافية لهذا الاتهام الباطل، فقد زجر ولي عهده لمعاقرته وإدمانه الخمر، كما زجر ابنه مسلمة المكَنى أبا شاكر، وألزمه الأدب وحضور الجماعة. تقبله للهدايا: كان هشام يتقبل الهدايا من الولاة وغيرهم، ولم يَرَ بذلك إضرارًا بمصلحة الدولة أو إجحافًا بحقوق الناس، ولا شك أن قبول هشام للهدايا من الولاة خاصة، وعدم إمعانه في التحري عن مصادر تلك الهدايا أمر غير مقبول، من حاكم مثله وهذا مخالف للنهج الذي سار عليه عمر بن عبد العزيز فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي. صحيح البخاري تربيته لأولاده: كان لهشام عشرة من الأولاد الذكور وبعض البنات، ويختلف المؤرخون في عددهم؛ فيذكر ابن حزم أن عددهم كان ستة عشرة ولدًا وبعض البنات، وقد حاول هشام أن يحسن تربية أولاده فاختار لهم محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المحدث لتأديبهم، واختار هشام لأولاده ـ أيضًا ـ من يعلمهم اللغة والشعر وكان يحضر أحيانًا مجالس مؤدبيهم، وكان يعطي مؤدب ولده ألف درهم كل شهر، إلى جانب الكسوة والجوائز، وكان يوصي مؤدب ابنه أن يعلمه القرآن، ويروِّه الأشعار، وأيام الناس، ويأخذه بعلم الفرائض والسنن، وقيل: أوصاه أن يأخذ ولده بكتاب الله ويقريه في كل يوم عشر آيات ليحفظ القرآن، ويروه من الشعر أحسنه، ويتخلل به مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرفًا من الحلال والحرام والخطب، ويصله بأهل الفقه والدين، وبالرغم من ذلك فقد أساء بعض أبنائه السيرة، ولم يشتهر أحد منهم بعد سقوط الدولة الأموية عدا حفيده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، مؤسس الدولة الأموية بالأندلس. ويُذكَر أن هشامًا شتم ابنه محمدًا لقيام أحد عبيده بضرب طفل نصراني، كان قد اعتدى على أحد أولاد محمد، كما منع أحد أولاده من ركوب الدابة سنة، عقابًا له على عدم حضوره لصلاة الجمعة بحُجَّة موت دابته، وأنه ليس باستطاعته أن يحضر إلى المسجد ماشيً، وقد كان هشام يهتم بتصرفات أولاده ويرغب لهم أن تكون سمعتهم جيدة بين الناس، وتصلح أحوالهم مع ربهم ودينهم، ويتضح ذلك من اختياره لمؤدبهم، وتوليتهم مواسم الحج، وإجبارهم على حضور الجمعة. كما كان هشام يُشرِكُ أولاده بالحروب، ويقلدهم قيادة جيوش الغزو وقد اشتهر منهم معاوية بن هشام، قال عنه ابن حزم: قاد الصوائف عشر سنين،وقد شارك معاوية في قيادة الحملات الموجهة لغزو الروم زمن أبيه أكثر من عشر مرات، وقد شارك في قيادة حملات الغزو من أولاد هشام: سليمان، ومسلمة، وسعيد، ومحمد. علاقة هشام بن عبد الملك بالرعية كان هشام يضع الرقباء والعيون من خيار الناس على ولاته وعماله ليتأكد من سيرهم بالعدل، وقضائهم حوائج الخلق، ولا يكتفي بذلك بل يتعرض للناس بنفسه يسأل عن أحوالهم، ويحرضهم على المطالبة بحقوقهم، وكان له موضع بالرصافة تُضرَب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة بارزًا للناس، يرد فيها المظالم ويأخذ على يد الظالم، من جميع الناس وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته في ذلك الموضع راعي السوام والأمة السوداء، فمَنْ دونهما وقد وَكَّل رجالاً عقلاء بإدناء الضعفاء، والنساء واليتامى منه، ويستقبل وفود الأمصار فيلبي حاجاتهم، ويخرج مع مستشاريه يصنع لهم الطعام بنفسه فيأكل منه، ويأكل معه الناس، وإن نشبت بينه وبين أحد من أشراف رعيته خصومة لم يجد مفرًا من إرضائه بكل سبيل، فقد شتم هشامٌ مرة رجلاً من الأشراف؛ فوبخه ذلك الرجل وقال: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاسْتَحَى منه وقال: اقتصَّ مني، فقال: إذًا أنا سفيه مثلك، قال: فخُذْ عوضًا من المال؛ قال: ما كنت لأفعل، قال: فهبها لله، قال: هي لله، ثم لك؛ فنكس هشام رأسه واستحى، وقال: والله لا أعود إلى مثلها أبدًا. وفي أيام هشام قحطت البادية، فقدمت عليه وفود العرب، فهابوا أن يكلموه وكان فيهم درواس بن حبيب وهو ابن ست عشرة سنة، ثم قال هشام لحاجبه: من أراد أن يدخل عليَّ فليدخل فدخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه؛ فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام طيًا ونشرًا، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أَذِنَ لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته، فأعجبه كلامه وقال: انشره لله دَرُّك؛ فقال: يا أمير المؤمنين إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كان لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فلا تحسبوها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، قال هشام: ما ترك لنا الغلام واحدة من الثلاث عذرًا، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في نفسي دون عامة المسلمين. كان هشام لا يدخل بيت ماله مالاً حتى يشهد أربعون رجلاً أنه أُخِذَ من حقه، ولقد أعطى لكل ذي حق حقه، ويقال: إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.. يوميات هشام ومجلسه: كان هشام إذا صلَّى الغداة كان أول من يدخل عليه حرسه، فيخبره بما حدث في الليل، ثم يدخل عليه موليان له مع كل واحد منهما مصحف فيقعد أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره حى يقرأ عليهما جزأه، ويدخل الحاجب فيقول: فلان بالباب، وفلان، وفلان، فيقول: ائذن، فلا يزال الناس يدخلون عليه، فإذا انتصف النهار وُضِعَ طعامُه، ورُفِعَتِ الستورُ، ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه جالس خلف ظهره، فيقول: أصحاب الحوائج، فيسألون حوائجهم، فيقول: لا، ونعم، والكاتب خلفه يوقع بما يقول: حتى إذا فرغ من طعامه وانصرف الناس صار إلى قائلته، فإذا صلى الظهر دعا بكُتَّابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس حتى يصلي العصر، فإذا صلَّى العشاء حضره سمَّاره: الزهري وغيره. اهتمامه بحلبات السباق: كان هشام بن عبد الملك يستجيد الخيل، وأقام الحلبة فاجتمع له من خيله فيها وخيل غيره أربعة آلاف فرس، ولم يكن ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس، وكان هشام يقبل الهدايا من الخيل، ويقيم حلبات السباق لها، ويصلح الطرق ويوسعها لأجل ذلك، وكان يفرح كثيرًا إذا فازت خيله في السباق ويطلب من الشعراء وصف الفرس أو الحصان الفائز.. اهتمامه بالآثار الأدبية الخاصة بالأمم الأخرى: كان الخليفة هشام بن عبد الملك شغوفًا بالإطلاع على الآثار الأدبية الخاصة بالأمم الأخرى، فقد أمر بترجمة كتاب عن تاريخ فارس، وتسرب هذا الشغف إلى المحيطين به، فترجم مولاه سالم بعض كتب أرسطو إلى العربية، كما ورث ابنه جبلة بن سالم عن أبيه كثيرًا من معارفه وعلومه؛ فترجم بعض الآثار التاريخية إلى العربية. العلماء في عهد هشام بن عبد الملك: عندما تولى هشام بن عبد الملك حاول تقريب بعض العلماء ـ بعض الشيء ـ والاستفادة منهم، ومن أشهر هؤلاء العلماء العالم الجليل محمد بن شهاب الزهري، والإمام الأوزاعي، وأبو الزناد وغيرهم، وكان تأثير هؤلاء العلماء في اتخاذ القرار في بعض الجوانب، وبطريق غير مباشر من خلال تأثير قربهم من الخليفة وأسرته ـ لاسيما الزهري ـ على سلوك هشام وسيرته، ولعل الذي حَدَّ من تأثير العلماء في توجيه القرار في عهد هشام ـ مقارنة بتأثيرهم في عهد عمر بن عبد العزيز ـ هو محاولة هشام أن يمسك العصا من الوسط، فحاول أن يسير وَسَطًا بين سياسة عمر بن عبد العزيز الإسلامية الخالصة وسياسة المُلك، ووسطًا بين عصبية القبائل القيسية واليمنية، وهذا ما دعا الذهبي حين وصف سياسته أن يقول فيه: ".... فيه ظلم مع عدل".. سياسة هشام بن عبد الملك الخارجية: لم يكن هشام بن عبد الملك رجل دولة من طراز رفيع في إدارة شئون الدولة الداخلية فحسب، بل أعطى عناية كبيرة للسياسة الخارجية، ولصيانة حدود الدولة وتأديب أعدائها، يقول فلهاوزن: "ولا شك أن المؤرخ يخطيء في تصور هشام، إذا ظن أنه كان خليفة لا هَمَّ له إلا أمور الإدارة والشئون الداخلية، على أن هشامًا لم يكن جنديًا ولكنه لم يكن يرهب الحروب، بل هو وجهها بهمة وبكل الوسائل، وجهَّز جيوشًا كبيرة، ولم يدخر في ذلك الأموال ولا حياة الرجال وكانت يداه -دائمًا- مشغولتين بالمشروعات الحربية في أكثر المواضع تباعدًا؛ فقد كانت جيوشه تقف بالمرصاد للروم، واستمر في إقامة الحصون على الحدود، وكان قواده لا يكفون عن الغزو والجهاد، وكان هشام يسند قيادة الجيوش في معظم الأحيان إلى رجال من أسرته، مثل: أخيه مسلمة بن عبد الملك، وأبنائه معاوية وسليمان، وأبناء عمه مثل: مروان بن محمد بن مروان، وأبناء إخوته مثل: العباس بن الوليد بن عبد الملك. وإذا كان هناك من مأخذ على هشام بن عبد الملك فهو تغافله عن دعاة بني العباس الذين نشطوا في عهده في الدعوة لآل البيت وانبثوا في خراسان،وجَدُّوا في تشويه سمعة الدولة الأموية، وفي الاستعداد لتقويضه، ولعل كراهية هشام للعنف وسفك الدماء كانت سببًا في تغاضيه عنهم حتى استفحل أمرهم، وقد ظهرت آثار ذلك قبيل وفاته واستفحلت بعده، بحيث لم يستطع خلفاؤه وقف مَدِّ الدعوة العباسية التي نجحت في نهاية الأمر في القضاء التام على أسرته، ولذلك يقول ابن كثير: "لما مات هشام بن عبد الملك مات مُلْكُ بني أمية وتولى، وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جدً، وإن كانت تأخرت أيامهم بعهده، نحوًا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم وقتلوا منهم خلقًا وسلبوهم الخلافة" وفاة هشام بن عبد الملك: تُوُفي هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء من شهر ربيع الآخر سنة 125هـ. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع عمر بن عبد العزيز: | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
إلى ولدي العزيز... | ma7taje | قسم الأرشيف والمواضيع المحذوفة | 7 | 11-19-2010 12:09 AM |
الى اعضاء المنتدى العزيز | قيصر الحب | القسم العام | 11 | 01-21-2010 09:01 PM |
طلب من ابطال منتديات ال***** العزيز | العاشق 2005 | أرشيف قسم الألعاب الإلكترونية | 0 | 05-04-2009 04:00 PM |
اليك يادفتري العزيز | الشاعر الأليم | قسم الأدب العربي و العالمي | 0 | 10-24-2008 05:30 PM |
صور للأخ العزيز التمسآآآآآآآح | دمعه قهر | قسم الأرشيف والمواضيع المحذوفة | 5 | 08-20-2008 09:28 PM |