جورجيآنا ~

لا أعلم ماذآ اقول في المقدمـة ، سوى استمتعوا
.
سماء غاضبـة تصرخ رعـداً .. وغيوم باكيـة تبكي مطراً .. ورياح زاعقـة تصرخ ريحـاً .. وثلج يتناثر على شعري كحبيبات لؤلؤ ..
إرتديت معطفـاً أسوداً كسواد الغيـوم الماطرة .. ورميـت مظلتي السوداء المتهالكـة على أقرب رصيـف ذليل يرقد بين بحيرات الوحل ..

زعيـق الرعـد من فوقي يسبب لي رعبـاً منقطع النظيـر فأهرب إلى أقرب سقـف أستظلّ بـه .. فتهاجمني رعـود الذكريات الموحشـة ..
مشيت مطأطئة الرأس مخنوقة الأنفاس .. ذات أنامل رفيعـة ترتجف برداً وشفاه زرقاء أنهكها تعب السنيـن .. إصطدمت بجسد بشري أمامي ..

فرمقتني تلك الفتاة الإنجليزيـة بعيون خضراء .. وتمتمت ببضع كلمات إمتعاض .. مضيت في طريقي بدون إعتذار .. وقد زاد ضياعي عن ذي قبل ..

وقفت أمام زجاج متجر لبيـع الكعك .. وبدأت أنظر للكعك من وراء الزجاج .. كم هي لذيذة هذه الفراولة .. كلا بل التشيـز كيك أفضل وذا طعم رائع ..
ألا توافقينني يا ألحاني .؟ .. لحظة .. أين أنتِ يا ألحاني .. ؟! .. فجأة وجدتها تعزف هناك على حافة حوض تلك النافورة ..

ذهبت هناك بخطى مليئـة بالوحل حتى وقفـت أمام حوض النافورة .. وجدت فتاة ذات شعر أشقـر ترتدي معطفاً أحمراً بهياً وقبعة تزين رأسها الصغير و تلعب مع والدها هناك ..

إبتسمتُ ببهتـان وأنا أتمنى أن أصادقها وألعب معها كل يوم .. ما أجمل الأطفال .. كم أحبهم ..

وبدأت تقفز وتلعب ووالدها سعيد بها .. وفجأة قفزت ونظرت إلي نظرة تفحص طفوليـة .. ثم أبتسمت وجلست إلى جانبي على ذلك الكرسي الصدئ المبلل بكل بساطة ..

وبحثت في جيوبهـا حتى وجدت قطعـة حلوى سكريـة بلون أخضر براق .. لمع على تلك الأضواء الصفراء التي تضيء ذاك الرصيف ..

مدتها لي بوسط يدها الصغيرة البيضاء .. أخذتها بيد مترددة وإبتسامـة أكثر تردداً .. فقالت بإنجليزية طفوليـة .. : هل لي أن أعرف إسمكِ .؟

فتأتأت بالعربيـة .. : ألـحـ .. ألحـان .. بدت مستغربـة من هذه الكلمة الغريبـة .. فإنتبهت على جرس ساعـة ( بج بن ) الثقيـل يزعق بقوة ..

وتذكرت أنني في بلد الإنجليـز .. إبتسمت بخفوت وأنا أتحدث بإنجليزية مكسرة .. : إسمي ألحان يا طفلتي ..

قفزت الطفلة أمامي وهي تقول : رائع .. إسمكِ رائع جداً .. أما أنا فإسمي جورجيانا .. هل يعجبكِ إسمي .؟

جورجيانا .. تلك الطفلة البريئة .. صديقتي الصغيـرة .. بمنتهى البساطة والطفولة جلست إلى جانبي وقالت لي إسمها .. ياللبراءة .. كم أحببتها .. وكم تمنيت أن أبقى معها وقتاً طويلاً ..

وقبل أن أتكلم لأبدي رأيي في إسمها صرخ صوت رجالي من مكان ما : جورجيانا .. تعالي حالاً سنذهب إلى متجر الآيس كريم الأن ..
صرخت الطفلة إلى جانبي .. : حسناً ..

وببساطـة مثلما جلست إلى جانبي قفزت فإذا بها واقفة أمامي .. وقالت بإبتسامـة تظهر أسنانها الصغيـرة كـعقد لؤلؤي : سعدت بالحديث معكِ يا ألحان .. وداعاً ..

وركضت إلى والدها وهي تسأله أي نكهة من الآيس كريم سيشتري لها .. حملها بسعادة وولّوا هاربين من نظراتي التي تتبعـهم بحسرة .. حتى غابوا بين كتل من ظلام خيّـل إلي أنها كانت هناك ...

والأن يا حياتي الفارغـة .. بمَ سأملأكِ .؟! .. شعرت بملل شديد .. وبضياع أشد .. وبحزن لا أدري له سبباً .. وببرد جمّـد الدماء في عروقي فذهبت أتحاشى النظر إلى تلك الوجوه الصارمـة ..

ودخلت إلى متجر ما .. وبينمـا أنا كنت أنظر إلى النافذة بشرود .. فاجأني صوت بجانبي يقول بلهجة قاسيـة بعض الشيء : بمَ أخدمـكِ يا آنسة .؟

نظرت له بذهول وكأنني لأول مرة أخرج إلى العالم .. إستبطأ ردي وملّ تأتأتي المتواليـة بدون أن أركب كلمة على بعضها .. فقال : بمَ أخدمكِ يا سيدتي .. بسرعة من فضلكِ فلديّ عمل علي إنجازه ..

قلت له بسرعـة : آسـفة .. لا أريد شيئـاً .. سأذهب الأن ...

وخرجت عائدة بضياع أكثر .. وبحزن أشد .. وكأنني بين أمواج محيـط عميـق .. بعمق آلامي وجراحي ..

مشيت ومشيت حتى كلّـت قدماي من التعب .. كففت عن التسكع بدون طائل .. وتوجّهـت إلى شقـة كئيبـة أسكنها .. فقابلتني بظلام شديد الوحشـة .. وكأنها تحضنني وتقول مرحباً بكِ بين تلال الظلام أيتها الوحيـدة ..

فجلست على أقرب أريكة وعانقتني ذكرياتي بألم .. وذكرتني بمن هم بعيدون في عوالم أخرى .. بكيت حتى مضى الوقت .. وما أحوجني للبكاء في تلك اللحظة ..

غسلتني بلاد هؤلاء بمطرها حتى تشبّعت مطراً .. وجمّدتني ببردها حتى سمئت البرد .. وأثقلت روحي بأنواع العذاب حتى كدت أموت نزفاً ..

ويالبؤسي كم أنا وحيـدة ...

~

يمنع النقل إلا بذكر المصدر رجاءاً ~