قسم الأدب العربي و العالمي هو للمنقول من الشعر والنثر، والقصص والروايات مع الالتزام بشروط النقل الموضحة بموضوع القوانين |
#1
|
||||
|
||||
حكاية قطرة مطر
وُلدتُ صباح أوّل أمس من رحم ضبابة في الفضاء .. كان ذلك قبل بزوغ الشمس .. و ربما بعده بقليل .. لستُ أدري .. سيّان .. فالزمن بالنسبة لي ليس سوى جسر عبور.
يقولون أنه كان لأجدادي نفس ملامحي .. نفس تاريخ ولادتي و نفس تاريخ موتي .. و أنه كان لهم نفس تضاريس حياتي و نفس حجم أحلامي .. صغيرة و شفافة كنسمة هاربة من سوط القدر. كنتُ و حفنة ممّن تشبهني .. دائم التنقل و الترحال .. إذ أننا في الحقيقة لسنا سوى لحظات انتحارية في قافلة الحياة و مصيرنا – لا شك – سيكون انفجاراً .. في أوّل منعطف للعطش .. أو على نافذة أمل .. و ربما على رأس جبل زاهد من السماء. هكذا سيكون مصيرنا .. هذا إذا لم تأسرنا مواسم القحط و تنأى بنا حيث نتساقط تهالكاً في مجاري العمر .. لتعيدنا قسراً إلى رحم الضباب كي نعيد ولادتنا .. و من جديد ننتظر قافلة الغد. بشكل عام .. و حسب تاريخ أجدادي .. نتمتّع بيومين فقط من الحياة .. نولد كي نموت عند اكتمال دائرة الوقت .. أمّا من حالفهم الحظ بالنفاد من براثن تلك الدائرة .. فيكون لهم شرف الحصول على " وسام الخضرمة " .. و الذي يؤدي فيما بعد .. إلى تنظيم إعصار انتحاريّ جماعيّ .. و اتّخاذ الريح الوفيّة حليفة لهم .. ليجوبون معاً فضاءات الكون قبل أن يكون سقوطهم انفجاراً يستبيح جسد الأرض و ينتهك حرمة البحار. عادة .. يتقرّر تاريخ موتنا مسبقاً .. و حالَ معرفتنا باليوم المحدد .. يتسلّل الخوف بين صفوفنا و يتسرّب القلق إلى قلوبنا .. فيلجأ بعض الضعفاء منّا للهرب نحوكم يا معشر البشر .. و يصلكم الخبر باكراً .. فتتّخذون احتياطاتكم نحونا .. و ذلك بالتعاون مع عميل لكم اندسّ بيننا ذات معرفة بوجودنا .. و عن طريقه ترصدون تجمّعاتنا و تنقلاتنا قبل وصولنا المفروض إليكم .. عميلكم المناخيّ هذا .. يتجسّس علينا .. يتطفّل على مشاعرنا الفردية و الجماعية .. و رغم معرفتنا بوجوده و نواياه .. إلاّ أننا لا نكرهه و لا ننتقم منه .. لأنّ المحكوم عليه بالموت كـ قطرة مطر .. لا يغيّر مصيره بغضه للجاني. أمّا عن تاريخ موتي .. فقد تحدّد إثر ولادتي .. عليّ أن أسقط اليوم في مملكة النفايات .. يا للأسف .. كم كنت أتمنّى الحصول على "وسام المخضرمين" كي تكون نهايتي مثلهم .. إعصاراً يتفجّر فوق رؤوس الأموات. قبل السقوط .. اجتمعنا و رفيقاتي في صدر غيمة على أهبة الغضب .. كان الصمت يجول بيننا كشرطيٍّ المعتقل .. و كان الخوف يلسعنا كأفاعي الغابات .. و رغم إيمان بعضنا بالحياة بعد الموت .. إلاّ أنّ بعضنا الآخر .. كان يقينه بأنه لن يتقلّد يوماً وسام الأجداد .. و لن يكون موته سوى وسيلة من وسائل الزمن لاستمراريتكم أيها البشر و لاستمرارية قرابينكم في معبد البقاء. لا أحسدكم يا معشر البشر .. لكنني أتحسّر على ما سيشكّل لكم مماتي. ها نحن الآن نخترق فضاء مملكة النفايات .. يتجاوز عددنا المئآت من القطرات .. بل مئآت الآلاف من القطرات .. حشدٌ لا يُحصى من القطرات المتّجهة نحو مصيرها المحفور في ذاكرة البشر .. فلتبدأ إذن مراسم الأحزان. بدأ تساقطي الآن .. يستحيل التراجع .. أتساقطُ .. يستحيل التوقف عن السقوط .. أتساقطُ .. يستحيل حتى إلقاء نظرة أخيرة خلفي .. أتساقطُ .. و تقترب الأرض مني بسرعة الخوف .. أتساقطُ .. و أقترب منها أكثر فأكثر .. تفصل بيننا بضع مئات من الأمتار فقط .. و بضعة آلاف من أحلامي التي تتكسُر. يا لبؤسي .. ما هذا؟ ماذا يحدث لي؟ أشعر فجأة ببرودة حارقة في أضلعي .. ما هذا البياض الذي يكفّنني بغتة؟ أشعر بالصقيع في أطرافي .. بالخوف يتسلّل إلى مفاصلي .. أتقلّصُ .. أتشنّجُ .. أتهاوى ببطءِ الاحتضار. آهٍ .. الآن أدركتُ .. أدركتُ أنني تبدّلتُ .. تحوّلتُ .. تغيّرتُ من قطرة مطرٍ مكوّرة إلى ندفة ثلجٍ متشرنقة. تباطأ سقوطي .. و تباطأ الدم في عروقي .. ربّاه لطفاً .. أعدني قطرة مطر قبل لقائي مع المجهول. ما أتعسني و ما أشقاني .. لماذا تكابدني الحياة هكذا و تعذّبني؟ لماذا تريد تجريدي من أثمن و أرقّ ما لديّ .. من جسدي؟؟؟؟ أبحث عن رفيقاتي من حولي .. هنّ أيضاً تحوّلن إلى ندائف ثلج أبيض .. و رغم الرعب الذي ينتابني .. إلاّ أنني تهتُ فيما آل إليه حالنا .. كنّا نتابع السقوط كراقصات باليه فضائية في غاية الأناقة و الكمال. في الأسفل .. و على بعد أمتار فقط مني .. كانت الندائف الآولى تتلاشى قبل وصولها إلى المقرّ .. و تعود إلى تكوينها الأوّّل .. إلى شفافيّتها الآولى .. إلى شكل الماء. اطمأنّ قلبي .. إذ لا شك أنني أنا أيضاً سأستعيد مثلها جسدي و أعود كما كنت يوم ولادتي .. سأعود قطرة مطر. في تساقطي .. في اقترابي من حتفي .. استعدتُ تكويني .. و استعدتُ مخاوفي و تساؤلاتي : هل سأتألّم لحظة انكساري على الأرض؟ هل سأموتُ حقّاً؟ أين سيتبعثر حطامي؟ كيف سيكون قبري؟ ينتابني الرعب .. أرتجف من جديد .. أشعر بالدوران .. بالغثيان .. أخشى للأسف أن سأكفّ عن مخاطبتكم بعد حين .. أخشى أن يأمرني الموت بالصمت قبل انتهاء الكلام. لم يبق بيني و بين نهايتي سوى بضع خطوات .. يتهيّأ لي الآن رؤية المكان الذي سيشهد موتي .. أجل أراه .. أرى شجرة سوداء عارية الجسد متفرّعة الأذرع .. مسكونة بكائنات صاخبة ضوضاء .. أراها تقترب مني هازئة .. بل أنا التي أقترب منها مرعوبة تقتربُ و أقتربُ .. و المسافة بيننا تضيقُ و تضيقُ. عبثاً التفكير في انحيازي عن مساري ما عاد مجدياً معاندة الأقدار لماذا يا ربّي؟ لماذا هذا الهلاك؟ لماذا من بين كلّ الأشجار تلك الشجرة لتكونَ قضائي؟ أعترف الآن بضعفي .. بيأسي .. بضآلة وجودي .. أعترف أنني مجرّد قطرة مطر .. لا أكثر. أكتم أنفاسي الأخيرة و أتابع سقوطي أسمع في رأسي صدى صرخات رفيقاتي أمّا أنا .. فما عدت قادرة على الصراخ أشهقُ ثمّ أتنهّدُ تنهيدة الخلاص .. ثلاث ... إثنان .. واحد. |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع حكاية قطرة مطر: | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
حكاية حب | boha elmasre | قسم الأدب العربي و العالمي | 4 | 09-06-2010 04:13 AM |
[صور][لحظة سقوط قطرة حليب في القهوة] | Al3asq | نشأة مُبدع | 5 | 12-21-2009 01:45 PM |
..[]..كلنـآ بح ـآجـــہ ـألـى .(قطرة). مـآء..[].. | العاشق 2005 | القسم العام | 4 | 12-18-2009 11:12 PM |
برنامج يزيد من سرعة الأنترنت ويمتص أخر قطرة ID Internet Optimizer v1.2 | العاشق 2005 | أرشيف قسم البرامج | 1 | 12-18-2009 05:41 PM |
برنامج يزيد من سرعة الأنترنت ويمتص أخر قطرة ID Internet Optimizer v1.2 | العاشق 2005 | أرشيف قسم البرامج | 1 | 07-18-2009 10:52 PM |