تذكرني !
تابعنا على
Bleach منتديات العاشق
قسم الأدب العربي و العالمي هو للمنقول من الشعر والنثر، والقصص والروايات مع الالتزام بشروط النقل الموضحة بموضوع القوانين

  #1  
قديم 09-18-2010, 04:09 AM
الصورة الرمزية majeta  
رقـم العضويــة: 60474
تاريخ التسجيل: Aug 2010
الجنس:
العـــــــــــمــر: 30
المشـــاركـات: 5,184
نقـــاط الخبـرة: 25
(( مدينة خارج الزمن )) رواية من الخيال العلمي


* طالب عمران *








[ مدينة خارج الزمن ]
(رواية من الخيال العلمي)





من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999

[ مدينة خارج الزمن ]
(روايــــــــة من الخيال العلمي)





-1-

حاول زملاؤه إقناعه بعدم السفر في هذا الطقس الحار بسيارته الجديدة ولكنه كان عنيداً، كان يرغب أن يشاهده أبناء حيّه وهو في سيارته الجميلة يروح ويجيء، مع أفراد أهله المدقعين فقراً.. كما كان قلقاً على أمه وليس من حجز مؤمن بسرعة على الطائرة.
اجتاز عامر مسافة الطريق البحري قبل أن يبدأ الطريق الصحراوي، وتبدأ معه الهواجس التي اجتاحته بشدّة، وهو يرى أن عدد السيارات العابرة قد قلّ كثيراً، حتى أنه انعدم في بعض المناطق..
وقبيل المغرب بقليل وصل إلى استراحة صغيرة.. لم ير أيّاً من السيارات أمامها.. أوقف سيارته وهو يشعر بالندم.. اقترب منها يبحث عن أحد فيها بدت له كأنها مغلقة وفجأة سمع صوتاً خلفه:
- نعم.. ماذا تريد؟
رأى رجلاً كهلاً يرتدي لباساً خفيفاً:
- أريد أن أجلس قليلاً وأتناول شيئاً من الطعام.. يا عم..
- لا أحد لديّ هنا.. وأنا رجل لا أرى جيداً.. لا أستطيع أن أخدمك
- زجاجة مياه غازية، وبعض(البسكويت)
- تفضل خذ ما تشاء.. الأسعار تجدها أمامك.
- حسناً.. ألا أحد يعمل لديك هنا؟
- في الصيف تخفُّ الحركة كثيراً.. فأستغني عن أحد الخدم نهائياً.. والخادم الآخر ذهب لإحضار بعض اللوازم.. وسيعود بعد المغرب بقليل..
- غريب.. كأن السيارات لا تمر من هنا..
- إنه وقت سيء للسفر يا بني.. درجة الحرارة تقارب الـ(60ْ) في الظلّ..
- يجب أن أذهب إلى أهلي.. منحوني الإجازة السنوية في هذا الوقت.. تفضل الحساب أمامك يا عم..
-أتريد متابعة طريقك الآن؟ انتبه جيداً، لا تسرع كثيراً، هناك بعض المناطق غير مضاءة من الطريق.
- شكراً لك يا عم..
كان عامر شاباً لم يتجاوز الثامنة والعشرين أنهى دراسته الجامعيّة في كلية الهندسة الكهربائية والميكانيكية، وأنهى خدمة العلم، وأخذ إجازة بلا راتب من عمله ليلتحق بإحدى الشركات العاملة في الخليج.. براتب شهري حسده عليه الكثيرون..
كانت هذه هي المرة الأولى التي يعود فيها إلى بلده بعد غياب قارب السنتين، وقد ألحّت عليه والدته أن يأتي ليراها فهي تعاني المرض والشيخوخة، وقد تنتهي حياتها فجأة..
ورغم أن أخوته طمأنوه على والدته، ولكنَّ إحساساً خفيّاً جعله يقدّم طلب إجازته السنوية إلى مديره المباشر، الذي وافق عليها بسرعة كبيرة وهو يرى لهفة عامر وقلقه على أمه..
بدأ الظلام يلتف وأضواء السيارة تشق الظلمة في منطقة معدومة الإنارة.. شعر عامر بالقلق والخوف، مازال أمامه ساعات حتى يصل الحدود، ربما استغرق الليل بطوله..
بعد نحو ساعة والظلام يشتد شعر بهواء يعصف في الخارج، كانت الرمال تُشكل سحباً بعيدةً.. كأنها زوابع بدت على أضواء
السيارة أشبه بأشباح عملاقة..
عاوده شعور بالخوف الشديد، وتمنى لو لم يقم بهذه الرحلة وحده.. ازدادت الزوابع والسيارة تنطلق على الطريق، وبعد فترة قصيرة بدا وكأن بعض الزوابع الرملية تقترب من الطريق، وربما ستلفُّ السيارة بالرمال لم يدرِ ما يفعل، ولكن رجله استمرت تضغط على(دواسة) البنزين.. والسيارة في سرعتها الكبيرة.. لم يشعر كيف تحركت تلك الزوبعة صوبه وكيف لفّت السيارة وابتلعتها
شعر أنه يدور ويدور والسيارة ترتفع به.. ثم أحس بصدمة كبيرة وغاب عن الوعي.. وشعر كأن أشباحاً حوله.. تدور وتهمس بلغة غريبة، وأن الأيدي تنتشله وتشده.. وصحا بعد فترة لم يدر أكانت طويلة أم قصيرة..





-2-

نظر حوله يتأمل المكان كان مكاناً مغلقاً بلا نوافذ وليس سوى ضوء مصباح ضعيف..
أزّ البابَ وسمع صوتاً ناعماً أيقظه من شروده:
- استيقظت من غيبوبتك؟ حمداً لله على السلامة
كانت فتاة جميلة في مقتبل العمر:
- شكراً لكِ، أين أنا؟ وما الذي حدث لي؟
-.. عثر عليك بعض الرجال خارج المدينة.. ملقى على كثبان الرمل..
- في أية مدينة أنا؟
- إنها(مودس) مدينة صغيرة.. كانت فيما مضى كبيرة متقدمة.. اسمي سميّة، أنا ابنة الشيخ حمدان.
-وأنا عامر.. كنت في طريقي إلى أهلي في الشمال..
- وكيف حدث وألقت بك الظروف في طريق أولئك الرجال.. الذين عثروا عليك؟
- إنها إحدى الزوابع الرملية.. ابتلعت سيارتي وألقتني بعيداً..
- زوبعة رملية؟ على كل حال ولو كنتُ لم أفهم ما تقول.. ولكن لا بأس أهلاً بك ضيفاً علينا
سمع صوت سعال ودخل كهل بلحية بيضاء:
- كيف حالك يا بني.؟. الحمد لله تبدو بصحة جيدة.. هل أحضرتِ له الطعامَ يا سمية؟
- لم أسأله بعد.. استيقظ قبلَ لحظات..
- شكراً لك يا عماه.. لا أستطيعُ أن أتناول شيئاً.
- منذ أيام وأنت لم تذق شيئاً من طعام أو شراب، سيضعف جسمك.. لا بأس أحضري له بعض الحليب الطازج.
- حسناً يا أبي..
خرجت سمية من الباب الوحيد سأله الكهل:
- تبدو شاباً طيباً، كيف حصل وجئت إلى نواحينا؟
- لا أدري ما أقول لك، كان حادثاً مريعاً.
- لابأس عليك.. أنت غريب عن هذه البلاد؟
- نعم يا عماه.. أعمل منذ سنتين في شركة تعمل على ساحل الخليج.
- شركة على الساحل؟ لم أفهم شيئاً.. ولكن لماذا ترتدي هذا اللباس الغريب؟ تبدو أشبه برجل لا ينتمي إلى هذا العالم.
- إنه لباسي، أنا لا أعرف كيف أرتدي مثل لباسكم.. تعودت على هذا اللباس..
أتت سمية تحمل جرة من الفخار:
- الحليب يا عامر.. تفضل.
- شكراً لكِ.. إنه ساخن في هذه الجرّة الفخارية.
قال الشيخ حمدان:
- أتريد شيئاً الآن؟ الأفضل أن نتركك ترتاح.. هيا يا سمية.
- شكراً لكم.
شعر عامر بالاستغراب فالمكان الذي يوجد فيه بدا له كأنه تحت الأرض فلا أثر لنوافذ.. كما أن كل الأشياء الموجودة في الغرفة بدت له قديمة بعضها مهترئ..
شيء واحد أحسَّ أنه محببّ لديه، هو وجه سمية الصبية الجميلة بلباسها البدوي القديم. غرق في التفكير حائراً.. ترى أين هو الآن؟ وماذا عن مدينة(مودس) التي لم يسمع باسمها من قبل؟
ربما كانت قرية صغيرة غير معروفة.. لذلك لم يسمع باسمها.. ولكن أين سيارته؟ هل ابتلعتها الرمال وماذا حدث للأشياء التي فيها؟ لقد اشترى الكثير من الهدايا، وسحب مبلغاً كبيراً من المال من المصرف وضعه في حقيبته الصغيرة..
كل شيء الآن في السيارة والسيارة لا يعلم عنها شيئاً فقد أكدت له سمية أن الرجال عثروا عليه ملقى فوق أحد الكثبان الرملية.. يجب أن يعرف كل شيء ولابد من العثور على السيارة..
تقلّب في فراشه يحاول أن ينام، ولم يكن يشعر بالحرّ، رغم أن الغرفة غير مكيّفة، بالعكس أحسّ ببعض البرودة التي اضطرته أن يضع جلد الخروف فوق جسمه.. ولم يدر كيف غفا سريعاً..
صحا على الباب يطرق ثم فتح ودخلت سمية:
- صباح الخير يا عامر..
- صباح الخير.. يبدو أنني نمت طويلاً
- نعم، وحان الوقت الآن، يجب أن تحرك جسمك حتى لا تصبح مخبولاً كسولاً.. هكذا يقول أبي.. هاهو الحليب، تفضل..
ناولته جرّة الحليب فعبَّ يشرب منها:
- شكراً لك.
- جهز نفسك سيأتي والدي ليصطحبك إلى المدينة لتزورها.
- حسناً.. لن أتأخر كثيراً.
أغلقت الباب نظر إلى ساعته: -إنها السابعة صباحاً..
ولكن لا يدري من أي يوم، فليس في ساعته تاريخ اليوم..
مشى والشيخ حمدان في دروب المدينة الضيقة شبه المضاءة.
- مدينتنا صغيرة كما قلت لك، ولكنها كانت مدينة كبيرة جداً كانت من أشهر المدن من قبل
- وما الذي حدث حتى صغرت هكذا؟ هل هجرها أهلها؟
- لذلك قصة كبيرة، قد أحكيها لك يوماً.. قلت لي تريد معرفة المكان الذي عثروا فيه عليكِ وأنت بين الموت والحياة؟
- نعم يا عمّاه.. أرجوك.
أشار إلى أحد العابرين وهو يقول:
- حسناً.. ها هو أحد الرجال الذين عثروا عليك.. تعال يا سالم.. تعال.. إنه ضيفنا الغريب .
اقترب الرجل باحترام يحيّ عامر متفحصاً:
- آه الحمد لله تبدو بصحة جيدة.
- أرجوك يا أخ سالم، دلني على المكان الذي عثرتم فيه علي.
- لا بأس، إنّهُ بعيد قليلاً، ولكن سأدلَكَ عليه.. تفضل.. يمكنك العودة يا شيخُ حمدان.. إنه برعايتي الآن.
- لا.. سأرافِقكما.. عامر ضيفي وسأبقى معه.. وأعلم أنك أمين عليه يا سالم، ولكن لا بأس .
- كما تشاء يا شيخُ حمدان.




-3-

اجتاز عامر بصحبة الشيخ وسالم طريقاً متعرجة بين الرمال بعدما خرج من المدينة التي بدت وكأنها في وادٍ عميق تغطيها صخور كبيرة متداخلة.. جعلت الضوء لا ينفذ إليها كثيراً..
كانت مدينة عجيبة كأنها محفورة في الصخر، ضمن الصحراء مترامية الأطراف.. مشى عامر مع صاحبيه حتى وصلوا إلى كثبان رملية أشبه بالأهرامات تنتشر على مساحات واسعة.. أشار سالم لأحد تلك الكثبان.
- إنه المكان الذي عثرتُ فيه عليك يا أخ عامر..
- أيمكن أن أراه جيداً؟
- بالطبع.. كُنتَ مدفوناً بالرمال هنا، عَدا رأسِكَ وجُزءٌ من صَدركَ.
- أيمكن أن تساعدني في إزالة الرمال من هذه البقعة؟
- لماذا؟ هل تبحث عن شيء هنا؟
- عن سيارتي لابدَّ وأنها مدفونة هنا.. فيها كل ما املك تقريباً..
- سيارتُك؟ وما هي هذه السيارة؟ كيف هو شكلها؟
- ألا تعرف السيارة.. ألم تر واحدة من قبل؟
- للأسف لا.. ولا أعرف حتى شكلها.. لماذا تستخدِمُها.. ما فائدةُ استخدامِها؟
- إنها وسيلة نقل نستخدمها في الذهاب والإياب بين المدن والمناطق..
- آه فهي لابدّ وأنها ماتت وشبعت موتاً، فهذه الرمال تميت أي حيوانٍ يُطمرُ فيها..
- ليست حيواناً.. إنها كتلة من المعدن.
- تتحرّك؟ تتحرك وحدها؟ كيف؟ هل تعمل بالسحر؟ أم أنك تسخر منا بهذا المزاح الذي يبدو غير منطقي.. كأنه سخرية فعلاً.
- معاذ الله أن أسخر منكم.. ساعدني في رفع الرمال من هنا، وسترى أنني محق، وأن السيارة ليسَت حيواناً.
- لا بأس، ولكن إزاحة الرمال يلزمها صبرٌ ودأب.. وربما احتجنا لبعض الرجال.
- أرجو مساعدتك يا سالم بأي شكل.. كما قلت لك، كل ما أملك هو في تلك السيارة.
- لو ذكرتَ لي شيئاً عن تلك السيارة كُنتُ أحضرتُ بَعض الشبان لمساعدتنا.
- لم أفهم أنَ المكان يمكن أن يكون مَدفناً لسيارتي.
قال الشيخ حمدان:
- على كل حال يمكنكما البدء بالعمل، يا سالم.. وسأذهب لإحضار بعض الشبان الآخرين لمساعدتكما.
- لا بأس يا عماه.
كان عامر يبدو قلقاً شارداً سأله سالم:
- تبدو متعباً يا عامر؟
- رغم تعبي.. يجب أن أعثر على سيارتي.. إنها هامة جداً بالنسبة لي..
- إن شاء الله تعثر عليها.. يجب أن نُزيل كل هذه الرمال هيا..
بدأ يعملان ويزيلان الرمال بأصابعهما تمنى عامر لو كانت لديهما الأدوات المناسبة لارتاحا من استخدام أيديهما ولكن لا بأس، ليس لديهما سوى هذه الأصابع في الوقت الحاضر..
واستمر الشابان في محاولتهما إزالة الرمال من الكثيب وأتى الشيخ حمدان مع بعض الرجال لمساعدتهما..
واستغرق العمل طويلاً، ولكن لم يُعثْر على السيارة في نهاية المطاف..
شعر عامر باليأس ونظر حوله إلى الكثبان الأخرى، يفكّر فيها.. ترى أي من هذه الكثبان يبتلع سيارته.. وكأنما شعر الشيخ حمدان بأسى عامر، وهو يحدّق في الكثبان.. فهَمس إليه ملاطفاً:
- لا تقلق يا بني.. قد نعثر على ذلك الشيء المختفي في كثيب آخر.. وبالتأكيد أحد تلك الكثبان الثلاثة القريبة.. فلا يمكن أن تقذف بعيداً عنها كل هذه المسافة.. إذا كانت مدفونة في أحد الكثبان البعيدة .
- معك حق.
- ماذا سنفعل الآن يا شيخ حمدان؟
- هل تستطيعون البدء بإزالة الرمال من ذلك الكثيب الصغير؟
- لماذا؟ أتعتقد أن الشيء المختفي هو في أحد هذه الكثبان؟
- نعم.. وأرجو منكم مساعدتي..
- لا بأس، سنساعدك يا كبيرنا.. هيا يا رجال لنبدأ إبعاد الرمال عن ذلك الكثيب.
قال عامر: - سأساعدكم أيضاً.. هيا اقتربوا منه ولنُزِل عنه الرمال بسرعة.
- هل يمكن أن تساعدكم هذه المجرفة؟
- بالطبع.. أعطِها لهم.
كان عامر منفعلاً وهو يبعد الرمال بيديه.
- أرجو أن أعثر على تلك السيارة يا عماه.
- إن شاء الله يا بني..
سمعت أصوات وقع معدن على معدن كانت المجرفة تصطدم بشيء.. إنه معدن بالتأكيد..
((يا إلهي قد تكون سيارتي انتبهوا جيداً وأنتم تحفرون، لا تستخدموا المجرفة بقوة قد ينكسر زجاج السيارة.. أو تتحطم بعض أجزائها))
قال حمدان: - بلطف يا رجال بلطف..
- حسناً يا شيخُ حمدان..
عثر الرجال على قطعة معدنية ضخمة، عرف فيها عامر جزءاً من سكة حديدية محطمة.. وشعر بخيبة الأمل.. ولكنه تساءل عن سبب وجود تلك القطعة المعدنية الكبيرة في ذلك الكثيب..
واستمر الرجال يزيلون رمال الكثيب دون جدوى.. فلم يكن هناك شيء وعرف عامر أن تعب الرجال قد وصل إلى مرحلة تلزمه بإيقافهم عن متابعة العمل.
- شكراً لكم يا رجال.. سنستريح اليوم ونعاود العمل فيما بعد..
ثم همس عامر في أذن الشيخ حمدان:
((الأفضل أن نتمم العمل غداً.. قلت لي أن الاحتمال الأكبر أن يكون ذلك الشيء المفقود بين هذه الكثبان.. وقد أزلنا اثنين منها ويبقى اثنان آخران فقط..))
قال سالم:
- يمكننا متابعة العمل يا شيخ حمدان، لمَ نتعب كثيراً بعد.
- لا يا بني، يكفينا اليوم.. يمكننا العودة إلى المدينة.
- خذ المجرفة واحتفظ بها يا سالم.
- لا بأس.. سنستخدمها في الجولة التالية.
قال عامر هازّاً رأسه: - شكراً لكم.. أتعبتكم كثيراً.
أجاب حمدان: - لا بأس يا بني أنت ضيفنا..





-4-

تمشى الشيخ حمدان وعامر عائدين بعد أن ودعا الرجال:
- لم أر في حياتي مثل مدينتكم هذه يا عماه، كأنها مدفونة في الصخر.
- لها قصة طويلة كما قلت لك.. كم كان ذلك الزلزال مدّمراً؟ لقد دمّر تسعة أعشار المدينة.
- زلزال؟ وكيف حدث؟ ومتى؟
- منذ سنين بعيدة، ترك لي أحد أجدادي وصفاً دقيقاً عن الكارثة.. إنه مخطوط قديم احتفظ به بحرص في صندوق متين مُقفل.. لا يعرف سرّه سوى ابنتي سمية..
- أيمكن أن أطلع عليه يا عماه؟
- ليس بعد يا بني.. لم يحن وقت كشف ذلك السر..
وصلا بيت الشيخ حمدان قابلتهما سمية على الباب:
- ألا تشعران بالجوع؟ جهزتُ حَساءاً ساخناً بلحم الضأن.
- أحضري الطعام يا ابنتي.. بالطبع نحن جائعان.
- حسناً لحظات وأعود.
تمتم حمدان وهو يتابع سمية:
- سمية فتاة رائعة وأنا أحبها كثيراً.. إنها شديدة الأمانة والصدق.
- وحيدة؟
- لا.. لدي ثلاثة أولاد.. تزوجوا وعاشوا في مناطق أخرى، ولم أسمع عنهم شيئاً بعد رحيلهم.. سمية هي الباقية من أولادي الذين رحلوا عنا.
- زوجتك موجودة؟ أقصد أما تزال حية؟
- إنها مريضة، أثرَ بها إهمال الأولاد لنا.. وقد أمرضها ذلك رغم محاولاتنا التخفيف عنها.
- لم أرها بعد..
- ستراها سريعاً، إنها في إحدى الغرف الخلفية للمنزل.. هناك خادمة خاصة، تساعدها في تدبير شؤونها.
دخلت سمية تحمل طبق الطعام.
- الطعام.. تفضلا.
- سلمت يداك.. يبدو شهياً.
- بالهناء يا عامر.. أنت ضيف وتحتاج لتغذية جيدة.. أبي يأكل القليل.. إنه غير مسرفٍ في تناول الطعام.
- ولكن جسمه مربوع قوي.
قال حمدان:
- الأكل الكثير، ليس مصدراً للقوّة والعضلات المفتولة.. القليل قد يكفي الإنسان في حياته.. وقوته .
- معك حق يا عماه.
- ابدأا، كاد الحَساء أن يَبرد.
- بسم الله الرحمن الرحيم..
شعر عامر بأن سميّة سلبت لبّه.. وحين خلا لنفسه، شعر أنه يغرق شيئاً فشيئاً في حب الصبيّة..
وبعد استراحة الغداء بقليل، أتته سمية بالشاي، وطلبت منه الاستعداد لزيارة والدتها.. وبعد مدة قصيرة وجد نفسه يسير بصحبتها للقاء العجوز..@@@
- أمي إنسانة خارقة الذكاء، رغم مرضها، انتبه إلى ذلك، وأنت تحادثها، هي التي طلبت رؤيتك.. ولم نتحدث نحن عنك أمامها أبداً..
- لابد أن خبر وصولي إليكم قد وصلها عن طريق إنسان مقرب إليها..
- ربما.. وإن كنتُ أشك في ذلك.. فهي ترى في أحلامها كل ما يحدث حولها وتتنبأ بوقوع الأحداث دائماً .
قابلتهما الخادمة: - سيدتي نائمة.. غفت منذ قليل.
قالت سمية: - ألن نُدخِلَ الضيف إذن؟
- بل تفضلا بالدخول.. اجلسا إلى جانبها.. هكذا رغبت.
- أن نراقبها وهي نائمة؟
- رغبتها أن تدخلا فور وصولكما، مهما كان وضعها هكذا أكدت لي.
- لا بأس.. تفضل يا عامر..
كانت تغفو على فراش رقيق، وهي تسند رأسها على وسائد عديدة.. شعر عامر كأنه رأى وجهها من قبل بدا له مألوفاً..
- أمي الآن في أحد عوالمها.. كأنها منفصلة عن عالمنا.
همست الخادمة: - أرجو أن لا تتكلما، حتى ولو بالوشوشة، إنها تنزعج، وقد تستيقظ غاضبة.
- لا بأس.. لن نتحدث أبداً حتى تستيقظ..
تحركت العجوز بعد قليل:
- الماضي مخيف.. والمستقبل.. آه من المستقبل.. أحضري تلك المرأة التي فقدت زوجها، والمرأة الأخرى التي أصابها الجنون.
- حالاً يا سيدتي.
تأملت عامر: - أنت عامر الذي دخل في لعبة الزمن؟
- أنا عامر يا خالة؟ نعم.. ولكن ما الذي تقولينه عن لعبة الزمن.. لا أفهم شيئاً".
- أنا أتحدث بالألغاز أحياناً.. كيف حالك يا ابنتي؟
- بخير يا أماه.. ما زال أبي يريد رؤيتك.
- ليس بعد يا ابنتي.. ليس بعد.. لا أستطيع رؤيته الآن.. اسمع أيها الشاب، لم يحدثك حمدان بعد عن سبب تحول(مودس) إلى مدينة صغيرة مدفونة تحت الصخر. قل له أن يحكي لك حكاية هذه المدينة، إنه طلب مني.. أفهمت؟
- سأقول له أنك تطلبين منه ذلك يا خالة.
- حسناً.. وأنت يا سمية، قلبي عليك يا ابنتي، ستتعذبين لبعض الوقت، ولكن هذا قدرك، لا بأس،
لا أستطيع أن أفسر لك ذلك الآن.. و.. اجلسا صامتين أنت وعامر.. ولا تتحدثا حتى ولو همساً سأرى هاتين المرأتين.
دخلت الخادمة:
- أحضرتهما لك يا سيدتي.. حتى المرأة المصابة بعقلها رافقتني بهدوء، دون مقاومة.
أشارت لها أن تدخلهما، فدخلتا باحترام كبير:
- اجلسا هنا.. استمعي إلي جيداً أنت، فقدت زوجك منذ أشهر، أليس كذلك؟
كانت المرأة التي تكلمت إليها شابة صغيرة حزينة:
- نعم يا سيدتي.
- إنه في مكان يبعد عدة فراسخ إلى الجنوب، ينتظر أن يلتئم جرحه ليعود إليك.. أصابه سهم صياد كان يصطاد حمر الوحش.
- هل أستطيع الذهاب إليه وإحضاره.؟
- يمكنك الطلب إلى الشيخ حمدان أن يزودك بالرجال لإحضاره.. إنه في خيمة صغيرة تعتني به امرأة متقدمة في السن، عثر عليه زوجها وهو ملقىً بين الرمال والدماء تنزف منه.
- شكراً لك يا سيدتي، هل أذهب الآن؟
- لا بأس، رافقيها يا سمية إلى الخارج، واحذري أيتها المرأة من أن تفقديه ثانية.. أنت من سبب له هذه المصيبة، بإلحاحك عليه للذهاب للصيد وحيداً، دن رفيق، لتستأثري بالصيد وحدك هيا اذهبي..
- نعم يا سيدتي.
همهمت وهي تخرج:
- إنها تقرأ الأفكار أيضاً.
قالت لها سمية: - هيا، سأرافقك إلى الخارج.
تابعت العجوز: - وأنت أيتها المرأة؟
- ماذا تريدين أن تقولي لي يا سيدتي الحكيمة؟ أنا بلهاء.. يسخر مني الجميع، حتى أولادي هربوا مني.
- أنت تمرين بمرحلة صعبة وقد اكتشفت جريمة بالصدفة، جريمة فعلها أقرب الناس إليك، وهو ابنك الأكبر.. قتل ضيفكم ليسطو على ماله.. ودفنه بمعونة ابنك التالي خارج الخيمة التي تسكنونها..
- آه يا سيدتي.. كيف عرفت؟ ما الذي أستطيع فعله.. وامرأة ذلك الرجل تبكي وتنوح وتفتش عنه وجثته مدفونة قريباً من مسكني..
- سيأتي بعد أيام تائباً " نادماً"، ويعترف بجريمته، ليأخذ العقاب الذي يستحقه، لن يرحمه الشيخ حمدان.
- أنا أموت يا سيدتي، كنت خائفة على ابني من هذه الجريمة، والآن أتمنى أن ينال عقابه، لم يكن سوى وحش طامع قتل بريئاً يحمل أمانة ليست له كما قال لنا أكثر من مرة..
- اذهبي الآن.. ستتعذبين لبعض الوقت ولكنك ستجدين الراحة بعدها.. رافقها إلى الخارج يا عامر.
- سأفعل يا خالة..
هزت رأسها وهي تبكي بهدوء.
- آه ما أكثر سواد الأيام المقبلة..
قالت الخادمة: - أرجوك يا سيدتي لا تقسي على نفسك كثيراً.
- أرى الدمار يحدث بيننا من جديد.. إنه منظر مرعب يتخايل أمامي دائماً.





-5-

عاد عامر وسمية.. إلى العجوز.. كانت قد نامت من جديد، وطلبت منهما الخادمة أن يصمتا ويراقبا العجوز التي غفت قليلاً ثم استيقظت وهي تنظر نحو عامر بحزن..
حكت بعضاً من أحلامها وخيالاتها.. ثم حكت لعامر عن زمنه الصعب وأنبأته أن أياماً حالكة شديدة السواد ستبدأ في زمنه.. سيموت الكثيرون، من الجوع، والقهر والاختناق.. والمرض الصعب المنتشر كالوباء..
((آه يا بني تبدو مستغرباً نظرتي هذه.. ولكن لا بأس ستجتاز كل الشدائد التي ستمر بها.. ليال حالكة السواد ليس فيها سوى الكوابيس ستحيطك من كل جانب.. زمنك سيكون فيه الموت وسيموت الكثيرون من الجوع والقهر والاختناق والمرض الصعب المنتشر كالوباء.. لا.. لا ..))
- ما بك يا أمي؟
(( ارحل يا بني من هنا أنت وسمية، سأراكما فيما بعد.))
همست الخادمة:
- بسرعة.. ستأتيها الحالة بسرعة ولا تريد أن يراها أحد وهي تدخل فيها.
- أية حالة؟ لم أفهم؟
رجتهما الخادمة أن يخرجا.. سألها وهما يخرجان:
- ألا تزورين أمك كثيراً يا سمية؟
- إنها تعتكف باستمرار، وأحياناً تخرج من عزلتها فتستدعيني أو تستدعي والدي، أو أي شخص آخر من المدينة..
- إنها إنسانة عظيمة يا سمية.. لم أر في حياتي مثل نظراتها التي تفيض بالطيبة والحنان.. إضافة للذكاء والشجاعة..
- منذ سنوات وهي في عزلتها الغريبة تلك.. ليتني أقيم معها، هي لا تسمح لي بذلك.. وهي صارمة في قرارها.
اتجهت نحو الطريق المؤدي إلى خارج المدينة:
- إلى أين تذهبين الآن، إنه الليل بظلامه ووحشته.
- بل إنه الليل بسمائه الصافية ونجومه اللامعة وقمره الفضي البديع.
- معك حق..
همهم: ((يا لقلبي المعذب كيف لم أنتبه لكلماتها؟))
- إنها ليلة ندية، يا عامر، وهذا الهواء الخفيف مع بداية إيغال الظلام قد يعني أن العواصف الرملية قد تبدأ قبيل منتصف الليل وربما استمرت حتى الفجر..
- ألا تخيفك العواصف الرملية يا سمية؟
- أشعر بها قبل أن تبدأ أو ألجأ إلى الكهوف والمغاور الموزعة حول الجبل طوال مدة عصفها.. أو أعود إلى المدينة وهي محمية من العواصف والزوابع مهما كانت قوتها..
- تخرجين لوحدك كثيراً؟
- أحب الشرود والعزلة أحياناً.. جو الصحراء يسحرني بجماله وهدوئه..
- أتعرفين، أنت أول فتاة أقابلها في حياتي تتمتع بهذه الشفافية، بسيطة.. واثقة من نفسها.. ذكية أكبر من عمرك الحقيقي بكثير.
- آه يا عامر أشعر بالخوف دائماً من المستقبل، اللقاءات القليلة التي التقيت بها مع والدتي.. غرست فيَّ هذا الخوف من الآتي..
- حياتكم ليست سهلة يا سمية.. لم تدخل التقنية إليكم بعد.. أنتم بعيدون عن الحضارة.. وربما كان هذا أحد أسباب بقائكم وأنتم تتمتعون بهذه الميزات الفريدة من النقاء..
تردد صوت عواد ذئب ليس بعيداً عن مكانهما:
- أنت تحسن الظن بمجتمع مدينتنا أكثر مما يجب.
شعر بالخوف وعواء الذئب يقترب:
- كأن ذلك الذئب أصبح قريباً" منا.
- الذئب الوحيد لا يخيف.. إنه يبحث عن صيد سهل لا يتعبه.. أنت خائف؟ هي أول مرة تعيش فيها مثل هذه الأيام في صحراء تمتد بلا نهاية.. لم تر ما في الصحراء من أسرار.. حتى حيواناتها الغريبة لها أسرارها..
زمجر الذئب قريباً منهما كأنه يصارع حيواناً قال عامر:
- كأنه عثر على طريدته.. وهي تحاول الهرب منه..
- هذا ما يحصل فعلاً.. يبدو أنك تتعلم بسرعة يا عامر..
- بدأ القمر يختفي خلف التلال البعيدة.. الرياح تتحرك من جديد.
- لم يحن أوان الزوابع الرملية بعد. أتريد العودة إلى المدينة؟
- لا يا سمية، أتمنى أن نبقى معاً لوقت طويل.. أنت.. أنت..
- قل.. ولا تخجل.. ماذا عني؟
كانت الرياح قد بدأت تصفر:
- لا أدري ما أقول لك.. أنت.
- قل يا عامر.. الرجل عندنا لا يخجل من البوح عما في قلبه.
- إنه شعور لم أعرفه من قبل، لا يمكنني وصفه.. لا يمكنني التعبير عنه.. شعور من عثر علي شيء فيه كل حياته وسعادته"كنبتة عطشى للماء، هطل عليها المطر".
- يبدو أن الصحراء علمتك نطق الشعر يا عامر.
- بل أنت من علمني الشعر يا سمية.. أنا أحبك..
همست وهي تتنهد:
- أعلم ذلك.. هيا يا عامر بدأت حركة الزوابع.. يجب أن لا نقع في دواماتها القوية..
كانت الرياح قد بدأت تحرك الرمال في زوابع دوّارة وكان عامر يفكر:
- (آه يا إلهي كم أشعر بالسعادة لقد ارتجفت حين وضعت يدي على كتفها، هي تحبني إذن)





-6-

كان شعوراً جميلاً انتاب عامر وهو يدلف مع سمية بين الفتحات الصخرية في الطريق الهابطة إلى المدينة ظلت سمية صامتة وهي تشده بأصابعها، حتى وصلا إلى البيت، كانت إحدى الخادمات بانتظارهما..
قالت لهما بلهفة:
- إنها بانتظاركما الآن...
- أمي تنتظرنا؟ هيا يا عامر.. هل هي وحدها؟
- سيدي حمدان هناك أيضاً.
- والدي هناك؟ لابد وأن الأمر شديد الأهمية..
فتحت لهما الباب فدلفا إلى الداخل، كان الشيخ حمدان يجلس قرب رأس العجوز الممددة في فراشها:
- كيف حالك يا أمي؟
- اجلسي إلى جانبي يا ابنتي.. وأنت يا عامر اجلس هنا.
- خير يا أماه أراك ترغبين بالحديث إلينا، هل هو مهم إلى هذا الحد أن تشغلي نفسك بنا؟
- ماذا تقولين يا سمية.. أنتم همّيَ الوحيدُ في هذه اللحظات.. اسمعي يا ابنتي.. واسمعني يا عامر.
- نعم يا خالة.. أنا أصغي إليك ومتشوق لمعرفة ما تريدين.
- قدرُك أن تَفِدَ إلينا من زمن غريب عنّا.. وقدرك أن تعشق ابنتي، وهي بالتأكيد تبادلك الوُدَّ، رغم خوفها من المستقبل.. ولكن استمع إلي جيداً.. طلبت من حمدان أن يحكي لك قصة مدينتنا.. إنها قصة هامة جداً لمستقبلكما معاً أنت وسمية..
- لم أفهم يا خالة ما تقصدين؟
- ستفهمُ كل شيء حين يحكي لك حمدان القصة كما كتبها أجدادنا.. كنت نائمة في نوبات أحلامي العجيبة.. رأيتكُما معاً، كنتما تتحادثان بهدوء.. والقمرُ يختفي خلفَ التلال.. كان قلبُك يضربُ بعنف، وأنت تشعر بأنفاسِ سميّة قربك.. ومنذ أن رأيتُك للمرّةِ الأولى وأنا أعلم أن شيئاً هاماً ينتظرك هنا.. لم أعرف عنه أيةَ تفاصيلَ بعد..
قال حمدان: - هل نتابع البحث في تلك الكثبان الرملية عن ذلك الشيء الحديدي الذي يريده عامر؟
- ليس بعدُ يا حمدان.. احكِ له القصة أولاً.
- كما تشائين..
- وأنت يا سمية، يجب أن تظلي هنا إلى جانبي، بعضُ الناس سيأتون إليّ يرغبون أن أحِل لهم مشاكلهم، أرجو أن تساعديني في ذلك، أحتاجُك لبعض الوقت.
- كما ترغبين يا أماه.. سأبقى إلى جانبك.
سأل حمدان: - أتريدين شيئاً آخر يا أم سمية؟
- آه يا حمدان، أبنائي الشبانُ رحلوا واختفوا ولا نعلمُ عنهم شيئاً كم تذكرني بهم عندما تنادينني بـ(أم سمية).
بكت سمية: - أنا إلى جانبك يا أمي أنت كُل شيء في حياتي.
- بارك الله فيك يا ابنتي.. يمكنُكَ الانصرافُ الآن يا عامر مع الشيخِ حمدان.. أتمنى لك التوفيق.
همهم عامر.
- في حفظ الله يا خالة.. -



-7-

خرج عامر وفي ذهنه اختلطت المشاعر، وهو مستغرب تلك الأهمية التي أبدتها العجوز لحكاية المدينة.. وعلاقة مستقبله وسمية بتلك الحكاية.. أشار له حمدان أن يتبعه.. تغلغلا في أزقّة المدينة الضيقة التي أضاءتها مصابيح قديمة الطراز، تشتعل بوقود خاص..
انحرف الشيخ حمدان نحو فتحة في جدار صخري ولج داخلها وخلفه عامر.. ثم توقف أمام صخرة، ضغط على بزّال في الجدار فتحركت الصخرة ليظهر خلفها كهفاً كبيراً.. أشعل حمدان مشعلاً معلقاً من أحد المصابيح.. وضغط على(بزّال) آخر لتعود الصخرة وتتغلق عليهما.. كان كهفاً واسعاً انتشرت فيه كتل ضخمة ملونة.. وصناديق مكعبة الشكل.. اقترب الشيخ حمدان من أحدها وجرّه إليه.. وأشار إلى عامر أن يجلس فوقه ثم جلس على صندوق آخر مكعب الشكل بعد أن وضع طنافس مريحة تحتهما..قال لعامر
- اسمع يا بني، لو لم تعطني أم سمية الإذن لما أطلعتك على هذه الأسرار التي أحتفظ فيها عن دمار مدينة(مودس).
- ولماذا يا عمّاه انتظرتَ إذنها؟ ما العلاقة بينها وبين الحكاية؟
- هذا السرّ لا يُعطى إلا لمن يستفيد منه، إنه سرّ له دلالات كبيرة يجب على من يعرفه أن يسعى لإفادة الناس منه..
- أتعتقدني مؤهلاً لذلك؟
- بالطبع وهذا ما قررته أم سميّة.
- أرجو من الله أن أكون على قدر هذه المسؤولية.
سحب صندوقاً خشبياً طويلاً مزخرفاً من بين ركام الأثاث:
- هذا الصندوق يحوي أوراق جدي الأكبر الذي عاصر مرحلة دمار المدينة، وقد فصّلها تماماً..
فتح الشيخ الصندوق بمفتاح معلق في صدره فرأى عامر أوراقاً مخطوطة بلغة لم يستطع قراءتها.. شعر حمدان باستغرابه فقال:
- إنها لغتنا القديمة، لغتنا الحالية اشتقت منها.. على كل حال أنا سأقرأ لك المخطوط وأرجو أن تنتبه جيداً.
- حسناً يا عماه.. ابدأ أرجوك.
- توكلنا على الله.. بسم الله الرحمن الرحيم
((أنا فاضل بن علي المودسي، أكتب هذا للناس الذين سيأتون من بعدي وأتمنى أن لا يقرأ هذا المخطوط سوى الذين يؤمنون بالإنسان ونزعة الخير فيه.. ويحاربون الفساد والرشوة والأنانية والجشع ويقفون ضد من يعتدي على حرية الإنسان وإبداعه..
فكر عامر: ((لقد رأت العجوز أنني من بين هؤلاء الذين يحاربون الفساد والجشع ويقفون ضد من يعتدي على حرية الإنسان.. الحمد لله)).
عاد يستمع لصوت الشيخ حمدان.
- كنت طفلاً مدللاً لكبير مستشاري الأمير كعب أمير(مودس) وكان أبي شيخاً كبيراً حكيماً وقد سلّم كعب ابنه الأمير سلطان ولاية العهد، وأوكل إليه الاهتمام بالقضايا الكبيرة في المدينة.. وكنت أحد أتباعه ومستشاريه.. رغم صغر سني وفي أحد الأيام كنّا نجلس حول الأمير سلطان في إحدى أماكن لهوه، كنت أحدثه عن جارية جميلة أمتلكها:
- وماذا حدثَ لكَ بعدَها يا فاضل؟
- لاحقتها يا مولاي ولم أتركها تفلت من يدي، وهي الآن جارية في قصري، دون علم أهلها.
- أريدُ أن أراها.. قد تُعجبني.
- هي جميلة يا مولاي، وهي هدية مني إليك.. سأذهب لأحضرها.
- لا تتأخر يا فاضل.. سأنتظرك على أحر من الجمر..
- لن أطيل الغيبة يا مولاي.
خرجدت مسرعاً من ذلك المكان وبينما أنا في طريقي لقصرنا، رأيت رجلاً مسناً يبكي بحرقة.. اعترض طريقي بهدوء قبل أن أدخل القصر..
- أرجوك يا سيدي.. أعد لي ابنتي.
- أية ابنة أيها الخرف.. ماذا تقول؟
- ابنتي(ميدا) التي خطفتها من حيّها وقرب باب بيتها.
- ابتعد أيها المخبول، قبل أن آمُر الخدم بإلقائك في السجن.
- هي وحيدتي وأنيستي كيف لي أن أعيشَ دونها؟ أرجوك يا سيدي أستحلفك باللّه..
- ابتعد عني،
دفعته فسقط أرضاً ثم دخلت من الباب.. قال لي أحد الخدم:
- هل أزعجك ذلك المسن يا مولاي؟
- نعم، إنه وقح وملحاح.
- ما رأيك لو أرحناك منه.. طعنة صغيرة في الصدر.
- لا.. لا داعي لذلك، أين الجارية الجديدة؟
- إنها في غرفتها.. هل تريدها؟ سنرسل من يحضرها لك؟
- حسناً.. بسرعة.
- أمرك يا مولاي.
كان اسمها(ميدا) وهو اسم جميل.. وكنت واثقاً أنها ستعجب الأميرَ، وسأطلب الكثير من الأمير بعد أن يضمها إلى جواريه.. أحضروها إلي كانت ترتجف من الخوف:
- ماذا تريد مني يا سيدي؟ هل ستطلقني لأذهب إلى أهلي؟
- لا أهل لكِ.. وليس سوى والدك الهرِم.. وقد مات.
انفجرت تصرخ بحزن: -لا.. لا.. أبي مات؟
- لماذا أنت حزينة عليه؟ إنه على حافة القبر.
- آه.. يا أبي أمعقول أن تموت وأنا بعيدة عنك، لابد وأن القهر أصابك بعد اختفائي.
- هيا امسحي دموعك.. سنلبي دعوة الأمير سلطان.
- اتركني أرجوك ليتني أموت وألحق بك يا أبي.
- امسحي دموعك.. وهيا.. بسرعة تعالي إلى هنا.. ستذهبين معي رغماً عن أنفك،
- لا.. لا.. آه.





-8-

وحكى حمدان كيف اندفع فاضل يخرج(ميدا) من القصر، ويتجه نحو عربته التي جهزها له خدمه.. ويبدو أن والدها المسنّ قد رآها تدخل العربة وفاضل يجرها وهي تبكي فاندفع نحوها فيما تحركت العربة.
ورغم ضعف الشيخ، فلقد هزَّه منظر ابنته الباكية فهرع بكل طاقته وربما بطاقة الفجيعة التي تملكته خلف العربة حتى تعلّق بأحد نتوءاتها وظلّت تمشي بسرعة كبيرة، ولم يستطع أن يتمالك نفسه فسقط وقد تعلقت يداه بالنتوء، وجسمه ينجرُّ بقسوة على الطريق.. وأكمل يحكي على لسان جده:
"قلت لميدا وأنا أرى دموعها تنهمر:
- كدنا نصل، إن لم تتمالكي نفسك سأقتلك، أفهمت؟
- اقتلني أرجوك.. لا أريد أن أحيا بعد أبي.
- هه.. وصلنا.. أوقف العربة هيا أيها الحوذي.
- حاضر يا مولاي.
ثم طلبت من الحوذي أيضاً أن يساعدني في السيطرة على الصبية المتمردة.. كان الناس قد تجمعوا حول العربة يراقبون جسد الشيخ المشوّه وأنا أصرخ دون أن أنتبه في وجه ميدا:
- لن ينفعكِ بكاؤك.. إن لم تدخلي القصر مبتسمة سأذيقك الويل.
نبهني الحوذي: - انظر يا مولاي، يبدو أنه تعلّق بالعربة وجرّته لمسافة طويلة.
صرخت الفتاة مفجوعة تتأمل الجثة المشوهة: - أبي.. أبي.
- إنه والدك إذن.. أبعدوها عنه.
ولكنها بدت كأنها التصقت به.. أصبحت مضرجة بدمائه.. قال الحوذي مصعوقاً:
- مولاي .
- ماذا أيها المخبول؟
- إنها لا تتحرك.. لقد ماتت.
- ماذا؟ فعلاً.. لقد ماتت كيف حدث ذلك؟
أثّر بي هذا الحادث كثيراً.. وبدأت أفكر بالأسباب التي جعلت تلك الصبيّة الفاتنة تتأثر إلى الحدّ الذي جعلها تموت وهي ترى والدها في منظر مخيف شوهته الحجارة التي جرته العربة فوقها طوال الطريق.. بدأ شيء ما في صدري ينزف، ويدفعني للتفكير فيما حولي.. وفي تلك الليلة أرسل الأمير رسوله إلي، يطالبني بالجارية.. فاعتذرت له بأنها ماتت.. ولكني لم أستطع الابتعاد عن مواجهته في اليوم التالي.. في وسط جو صاخب ضاحك.. الجميع فيه يعاقر الخمرة.
- لماذا أنتَ مهموم يا فاضل؟ حزين على الجارية؟
قال أحد الموجودين ضاحكاً:
- بل هو حزين على المكافأة التي تسربت منه..
- إن كنت حزيناً على المكافأة، سأَجزيكَ مكافأةً كبيرة، وإن كنت حزيناً على الجارية سأهديكَ أجمل منها بكثير.
- إنه شارد يا مولاي.. ربما يتذكر لياليه معها.
- كانت جميلة القدّ دافئة إذن؟ هه؟
قلت حزيناً: -أنا آسف يا مولاي أشعر بتوعك منذ البارحة،
- حزين عليها؟
- إنه الطعام يا مولاي.. أكلت منه أكثر مما ينبغي... (كنت أبدو كالمريض فعلاً) قال الأمير:
- لا بأس.. سأعرضُك على طبيبِ القصر.
أمر أحدهم: - اصطحبهُ إلى طبيبنا المعروف، اذهب معه يا فاضل.. وأرجو أن تتحسّن صحتك على يديه .
- شكراً لك يا مولاي.
- لا تُطِل غيابَك عنّا يا فاضل، لماذا عمَّ الصمتُ مجلسكم أيها الأصحاب هه؟ لتحضرِ الراقصات والشراب.. ولتتمتّعوا..
فكرتُ مصعوقاً: ((ما أكثر الضحايا الذين ينتهون في هذا المكان دون شفقة؟)).






-9-

وقرأ حمدان باللغة المودسيّة الشبيهة بالعربيّة، كيف بدأ جده الأكبر فاضل ينتبه لما يحدث في المدينة وكيف كان الأمير كعب وحاشيته يُسيطر على مقدرات المدينة، وقد جمع الأمير سلطان بنُ كعب حوله شباناً صغاراً يلهثون وراء المتع، ويتغنون بحكمته وشجاعته ويسبلون عليه الألقاب التي هي بعيدة عنه كل البعد..
كان في سبيل المتعة والتسلية يدفع بالأبرياء إلى حلبات الوحوش المفترسة، وكان الناس يعانون من الظلم والقهر والجوع..
انتبه فاضل بن علي المودسي لما يحدث في المدينة، وكان والده قد اعتزل الناس، بعدما غضب عليه الأمير كعب لأنه نبهّه إلى العنف الذي يسوم به ورجاله الناس.
اتجه فاضل نحو المكان الذي كان ينزوي فيه الكهل، لم يكن قد رآه منذ فترة طويلة وقد أقصاه الأمير ومنع الناس عنه.كان يعيش في عزله تامة وهو في سنّ متقدم دون رعاية .. ولم يدر فاضل كيف يدخل إليه وقد سُدَّ الباب بالحجارة الضخمة.. دار حول المكان يفتش عن ثغرة..
ولم يجد شيئاً، بدا له المكان معتماً أشبه بقبر.. وبينما هو يجول حائراً انتبه على صبيّ يشدّه من يده.. كان صبياً هزيلاً بدت عليه ملامح الجوع الشديد.. تبع الصبي، فوجد مكاناً مغطىً بالحشائش أشار له أنه يزيل هذه الحشائش فخلفها فتحة تفضي إلى الكهل الحبيس.. مد يده إلى جيبه يستخرج صرته العامرة بالدراهم، أعطاه بعضها، ثم أخذ يزيل الحشائش بهدوء لتنفتح له الثغرة.. وقبع الصبي قرب المكان وهو يشير لفاضل أنه سيعيد الحشائش من جديد إلى مكانها حتى لا يلحظ أحد دخوله..
ابتسم له بود وولج من(الثغرة) إلى داخل المكان المظلم.. أخذ ينادي والده:
- أبي.. أين أنت؟
كان المكان مظلماً وليس من بصيص للضوء..
سمع صوته:
- كنتُ أتوقعُ مجيئك يا فاضل.. بدأت تعي ما يحدث يا بني، ارفع الغِطاء أمامك في اتجاه الصوت، إنه ساخن قليلاً سيعود الضوء للمكان.. إنه غطاءُ مصباحٍ كبير..
رفعه فانبعث الضوء يغمر المكان: - يا إلهي.. أبي.. ماذا حدث لك؟ تبدو هزيلاً مريضا.
- أنا بخير يا بني.. المهمُ أن تنتبه لما يحدث للناس، أن يعودَ إليك وعيك وتميّز الظلم.. الكارثة قادمة ولا رادَّ لها.. آه يا بني، اقترب مني قليلاً
- ها أنذا يا أبي.. بين يديك..
فكّر قلقاً: ((إنه لا يرى.. أبي أعمى آه يا إلهي)).
- أنا أعرف ما يجولُ بفكرك، أنا فقدتُ بصري بالفعل، لأنه لا حاجةَ لي للبصرِ وأنا حبيس هنا، لا أرى شيئاً.. تفتح داخلي على طاقات كبيرةٍ جعلتني أُبصر الغيبَ وأتنبأَ به.. أعطاني الله سبحانه وتعالى القوة لذلك.
- وما الذي تراه يا أبي؟ قل لي أرجوك.
- سيزداد فساد الطغاة، ويزدادُ الأذى والظلم وأريدُ منكَ أن تحكي عمّا يحدث للناس، أن تكتبَ ذلك، أن تصفَه بدقة، فهو إرثنا للأجيال القادمة.. يجب أن يعرفوا الكثير عن هذا الماضي العكِر.. اسمع يا بني، انزوِ في مكانٍ بعيدٍ ولكن بعدَ أن تدور بين الناسِ وتعرفَ عنهم الكثير..
اكتب عن متاعبهم وتعاستِهم وظلمهم، وصف ما يعانون وما يفعلُ بهم أولئك الطغاة الذين استعبدوهم..
- أعدك يا أبي.. سأفعل كل هذا.
- سيضايقونك، ولكن كن صلباً، ولا تخف، لقد تعرفتُ على الحقيقة بنفسي، وجابهتُ في سبيلها الكثير وسأموتُ في سبيل الزود عنها، وعن الحق..
رأى فاضل والده وهو يتضاءل وينكمش ويصغر حجمه بالتدريج، أذهلته المفاجأة
صرخ: -ما الذي يحدث؟ أبي يتضاءل وينكمش؟
- لا تنسَ يا بني.. لا تنسَ ما قلتُه لك
- أبي.. أبي.. ماذا هناك؟ ما الذي يحدث لك.. أسمع أصواتاً غريبة.
- وداعاً يا بني.. حانت لحظةُ رحيلي عن عالمكم.
- أبي.. أبي.. إنه يتضاءل يختفي.. كيف حدث ذلك.. يا إلهي.
وروى فاضل لحظات ذهوله بعد اختفاء والده، ثم كيف توجه نحو باب الخروج فوجد الجند بانتظاره ووجد جثة الصبي الصغير مضرجة بالدم إلى القرب من الثغرة التي كانت مغطاة بالأعشاب..
كان مراقباً دون أن يدري.. ولاحقوه، حتى دخل الثغرة وبينما كان الصبي يسوّيها بالأعشاب.. طعنوه من الخلف.. وأبعدوه عنها..
وحين خرج فاضل وجد نفسه بينهم، عاثوا في المكان بحثاً عن الكهل فلم يعثروا عليه.. فسيق فاضل إلى الأمير سلطان..
- خُنتني أخيراً يا فاضل؟ أين أخفيتَ ذلكَ المتمرد؟
- لم أخنك يا مولاي.. ووالدي مات.. أصيب بمرض حوله إلى تراب.. ومع الأسف الشديد يا مولاي..فلقد أصابني بالعدوى سأموت بمرضه.. وأتحول إلى تراب.
- ماذا تقولُ أيا المخبول؟
- الحقيقة.. يا مولاي، ألم يبحث رجالك عنه، هل وجدوا شيئاً غير التراب؟ لا.. لقد مرض أبي ومات وتحوّل إلى تراب، إنه مرض يحيل الإنسان إلى كومة من التراب بعد أن يتمكن منه.. وقد أصابتني العدوى..
- العدوى؟ كيف تحدّثُ هذه العدوى؟
- من يلمسني يا مولاي من يقترب مني يصيبه المرض الذي ينهش ببطء أعضاء الجسم، ويحولها إلى تراب.. آه.. من هذا المرض.. آه يا أبي، أعطيتني شيئاً لا أستطيع الخلاص منه..
صرخ: - أبعدوا هذا عني.. وألقوه في الأحياء الفقيرة يمرض سكانها ويحولهم إلى تراب.. هيا..






-10-

وقرأ حمدان ما كتبه فاضل عمّا جرى له بعد ذلك.. وكيف انتشر بين الفقراء يبصّرهم بواقعهم.. دون جدوى كانوا أشبه بالموتى.. كان عامر يستمع بشغف للشيخ حمدان..
((هنا يصفُ جدّي الأكبر ما حلّ بالناس وقد انقلبت مفاهيمهم للحياة وانتشرَ الزيفُ والفساد والنفاقُ والجشع، وبدلاً من أن يحمي الفقراء أنفسهم مطالبينَ بالعدالة، استسلموا لمن يحكمُهم بعُبوديّة طاغية، وهذا ما حولهم إلى أشباه بشر بلا حس ولاعاطفة.وهو يقدم هنا أمثلةً ((غريبةً أمرٌ غريبٌ فعلاً))
- ماذا يا عماه؟ اقرأ لي من فضلك ولا تترك شيئاً.. أريد أن أعرف القصة بكاملها..
- حسناً.. يقول جدي الأكبر..
((كان الأمير سلطان قد استولى على جميع ممتلكاتنا بعدما زرت والدي تلك الزيارة المحزنة.. كنت أعيش حياة التشرد والفقر، وقد ابتعد عني الجميع.. نظراً لما نشره عني الأمير من أخبار حول مرضي المعدي الذي يحول الإنسان المصاب به إلى تراب خلال فترة محدودة.. كنت تحت شجرة(خرّوب) كبيرة أسند رأسي إلى جذعها وقد تناهت إلى سمعي أصوات تغريد الطيور.. حين سمعت صوتاً خلفي:
- ماذا تفعل هنا أيها التعس؟ لماذا لا تشاهد حفلةَ الإعدام هه؟
كان رجلاً هزيلاً محني الظهر ينظر لي بحذر:
- حفلة الإعدام؟ ما الذي تقصده؟
- اكتشف الأمير سلطان أن بعض الفقراء سرقوا الخبز من مطابخه، وقد جهّز لهم حفلة إعدام كبيرة.. وطلب من الجميع حضورها..
- وما صفتك أنت حتى تدعوني لحضور هذه الحفلة؟ هل أنت من أتباعه؟
- لا.. أيها التعس.. لست من أتباعه.. أنا رجل بسيط لا أتبع أحداً، ولا أملك في هذه الحياة شيئاً سمعت يوماً ذلك الشيخ الجليل(علي المودسي) يحكي عن الظلم ويطالب الناس بالتحرك فأثرت بي كلماته، ولكني لم أجد مجالاً للحركة، فلجأت إلى هذه الجبال ألعنُ عجزي وقصوري.
- وكيف سمعت إذن بتلك الحفلة؟
- كنت في أول يوم تجوال لي بعد عزلتي، أتنقل في المدينة أرى ما آلت إليه أحوال الناس..
- وانتهت حفلة الإعدام؟
- لم تبدأ بعد.. رأيت بعض الجنود كانوا يسوقون الناس إلى الساحة الكبيرة في المدينة، سمعتهم ينادون ويصرخون مطالبين الجميع بالحضور إلى هناك، ومن لم يحضر فسيكتشفون عدم حضوره ويعاقبونه.
-ولماذا ناديتني بهذا الاسم(التعس)؟ ولا أراك متحمساً لحضور الحفلة؟
- تبدو متشرداً مثلي.. قلت لنفسي((منظرك يوحي بالرثاء والشفقة)) قد يعاقبك الجند، لذلك نبهتك إلى الحفلة وضرورة حضورها.
- ألا ترغب بحضورها أنت؟
- سآوي إلى الجبال هرباً من ذلك.. قد أموت ويتوقف قلبي حين أرى حفلة الإعدام تلك.. أنا ضعيف البنية، شديد الحساسية.
- لذلك أنت دون فاعلية، لا تؤثر على أحد.. ؟ اذهب معي إلى حفلة الإعدام ولا تخف.. قد تثير همم الناس بمقاومة الظلم.
- أنت.. الذي تبدو أشبه بشبح من الهزال والضعف؟
- لا تخف، مازال جسمي قوياً، وقلبي ينبض بروح المقاومة..
صرخ الرجل فجأة: - هاقد اقترب الجند من مكاننا.. سأسرع في الاختفاء.
قلت بغضب: - أيها الجبان الرعديد.
قال بخوف وهو يبتعد: - قل ما شئت، الهرب هو سلاحي الوحيد.
والتف الجنود حولي: - لماذا أنت هنا أيها المتشرد؟
- خير؟ ماذا تريدون؟
- الناس يتجمعون في الساحة الكبيرة، هناك حفلة عظيمة يقيمها سمو مولانا الأمير سلطان.. هيا تحرك إلى هناك قبل أن ألهب ظهرك بهذا السوط؟
- ولكني لا أستطيع السير.. جسمي ضعيف..
- سنوقظ فيك روح القدرة على السير..
انهالوا علي بالسياط فصرخت: - حسناً سأحاول أن أسير.
وفجأة علا صوت بعيد يصرخ بهم: - اتركوه ماذا تفعلون؟
- ماذا يا سيدي؟
- إنه الموبوء.. سيصيبكم بأمراضه.
- الذي طرده مولانا الأمير من بلاطه؟
- نعم.. اتركوه.. إن رغب بالتفرج على حفلة الإعدام فسيندس بين صفوف الناس المعدمين ويصيبهم بالعدوى
- هيا نتابع تفتيشنا بسرعة..
قالوا ساخرين وهم ينظرون إلي ويبتعدون بقرف:
- انظروا إليه إنه بالكاد يقف..
- فتشوا تلك الغابة القريبة، وأحضروا من ترون من الناس إنها حفلة كبيرة، ورغبة مولانا الأمير أن يرى الجميع هناك كيف يتم إعدام من تسوّل له نفسه العبث بأموال مولانا.
همهمت وأنا أنهض: -لن تفوتني مثل هذه الحفلة..






-11-

اتجهت صوب مكان الحفلة، وأنا أرى الناس يتراكضون من كل مكان حتى لا يتعرضوا للعقاب.. كنت أشعر بحزن كبير لما آلت إليه الأحوال، أهكذا يستعبدهم الأمير كعب دون أن يقاوموا؟ اندسست بينهم أطل على الميدان الكبير، حيث رأيت في الجانب الآخر الأمير كعب وإلى يمينه الأمير سلطان اللذين كانا باللباس التقليدي الرسمي، كان كعب يجلس على كرسي من الرخام مثبت فوق مصطبة تطل على الساحة، وسلطان يجلس على كرسي آخر أصغر منه وأخفض منه مستوىً.. ودوّى النفير يعلن عن بدء الاحتفال.. وشاركت في حوارات الناس:
- لم يظهر البؤساء بعد؟
قال أحدهم: - من تقصد بالبؤساء؟ أتعني أولئك المجرمين الذين سطوا على مطابخ الأمير؟
- نعم.. وهم ليسوا مجرمين، لا يمكن أن تطالب الجائع بإسكات معدته بالصمت والصبر.. أفهمت؟
- انتبه الجنود حولنا في كل مكان.
قلت: - أنا ابن علي المودسي لا أخشى أحداً.. لم يركع والدي لهم.. ظلّ شامخاً رافضاً الظلم حتى مات.
- أنت الموبوء المريض بمرض والدك؟ هه.. ابتعد عنّا قد تنقل إلينا العدوى.
-إنها كذبة ساذجة انطلقت على أميرك الشاب وحاشيته.
- كذبت على الأمير؟ كيف تجرؤ؟
- يكفي، لماذا أنت مرتعب لهذه الدرجة؟ ما الذي يستطيع الأمير أن يفعله لكم لو كنتم متحدين متعاونين؟ هه؟
اقترب منّا رجل كان يسمع الحوار: -معك حق بالتأكيد
قال الأول: - بدأ الاحتفال.. ابتعد عني ولا تلمسني، سأتفرج على إعدام أولئك اللصوص .
- كما تشاء.. وإن كنت متأكداً أنك ستبلغ عني جنود الأمير.. شخصيتك الهشّة تدل على ذلك .
أخذت أتكلم بصوت مرتفع: - أمعقول أن يمثل بجائع يسرق رغيفاً بهذه الطريقة؟ إنه الظلم كيف للأمير أن يفعل كل شيء دون اهتمام منكم؟ أتخافونه إلى هذا الحد؟ معقول؟
وانبعث صوت أحد الجلادين: - هؤلاء الثلاثة الأوغاد سيُعدمون بقطع الرؤوس..
هكذا يرغبُ مولانا الأميرُ سلطان..
صرخ الأمير سلطان: - هيّا نفذوا فيهم الحكم.. فوق المنصّة.. اقطعوا رقابهم..
- حسناً يا مولاي.
وهمهم الأمير وهو يرى تنفيذ الحكم:- تدحرجت رؤوس الأوغاد الذين جرؤوا على الاقتراب من مطابخ مولاهم.. أحضروا المرأتين..
- حسناً يا مولاي الأمير..
وصرخ المنادي: - أتسمعون أيها الناس؟ هاتان المرأتان تسللتا إلى أحد مطابخ القصر، وحاولتا سرقة الطعام.. انظروا إليهما..
قفزت مرعوباً: - مستحيل، إنهما أمي وأختي.. كيف حضرتا إلى هنا.. لقد أرسلهما والدي إلى قرية بعيدة، إلى بيت أخيه الأكبر لتعيشا خوفاً من ظلم الأمير.. أمعقول؟ لا أصدق ما يجري.
كان الأمير يحاول إخضاع أمي: -ألن تعترفي أيتها المرأة بجريمتك؟
- لم أرتكب جريمة، حين جئت أسأل عن ولدي فاضل.. لم أكن أعرف أنك غضبت عليه، كما غضبت على والده..
- أمرٌ مثير للسخرية، تسألين عن المريض الموبوء الذي تتحوّل أعضاؤه إلى تراب؟ . إنه مثير للقرف ينشر العدوى في كل مكان.. كوالده..
- أنت لا تقول الصدق، ابني سليم الجسم.. كما كان والده.. أنا أعرفهما جيداً".. ألم يكن فاضل صديقك المقرب، ما الذي حولك عنه أخيراً"؟
- عثر عليه الجند في مكان عزلة والده، رفض أوامري بعدم الاقتراب من ذلك الجحر الذي يعيش فيه زوجك المخبول..
- لم يكن زوجي مخبولاً، كان يمقت الظلم والظالمين..
- ابنتك صبية حلوة، سأضمها إلى الجواري.. أتسمح لي بذلك يا أبي؟
قال كعب: - إنها هديتك يا سلطان، فكوا قيد الصبية وأحضروها إلى هنا.
كنت كالملدوغ: - يا إله السماوات كيف سأجتاز هذه الحواجز.. لأصل إليهما؟
صرخت أختي: -اتركوني أيها الأنذال.
قال الأمير: -لا تضايقوها.. ستأتي مرغمة إلي.. هيا يا جميلة.
همهمت أمي: - عفراء.. لا تستسلمي له يا ابنتي.
- لا تخافي علي يا أماه.
صرخ سلطان وهو يهتز: -تعالي.. تعالي.. أرأيت يا أبي، يبدو أنها الشخص السليم بين عائلة المودسي.
همهم كعب: - ستكون متعتك المقبلة يا بني.
لم أستطع الصبر على هذا الموقف أكثر من ذلك فدفعت من حولي مخترقاً الصفوف.
-ابتعدوا من هنا..
سألني من إلى جانبي: - ما الذي يجري يا أخ؟
- أمي وأختي أمام الطاغية.. يجب أن أصل إلى هناك.
قال: - لا تكثر من الضجيج حتى لا ينتبه إليك الجند.. سأوصلك إلى هناك.. تعال.
كان كعب يسأل سلطان: -وبماذا حكمت على المرأة يا سلطان؟
- هذه العجوز الشمطاء الطويلة اللسان.. ستوضع فوق المحرقة.
- حكم ممتاز.. والفتاة تصبح جارية لك.
صرخت أمي: - لن تصبح ابنتي جارية لك أيها الوغد..
وفجأة استلت سيفاً من سيوف الحرس:
- دافع عن نفسك أيها الوغد.. أتحدّاك..
- تجيدين استعمال السيف؟ هه؟ حاصروها بسرعة.. وأطلقوا حرابكم في اتجاهها.. هيا..
كانت أمي تجيد فعلاً استعمال السيف وكانت محاربة ماهرة.
صرخ سلطان: - وجهوا صوبها السهام من كل جانب..
وانضمت أختي إليها وقد تمكنت بغفلة من الحراس أن تستل سيف الحارس الواقف إلى جانبها: - أنا معك يا أماه.
كان سلطان يصرخ: -حاصروهما واقتلوهما.. هيا..
وكنت قد وصلت إليهما: - تشجعي يا أماه.. أنا قادم.
غمغم سلطان بخوف: - الموبوء.
قلت: - سأقترب منك وأنقل إليك العدوى.
قال الرجل الغريب الذي يساعدني: - تقدم لا تخف.. أنا أحمي لك ظهرك؟
بدا الوضع مستحيلاً، ولكن ذلك الرجل إلى جانبي، تمكن من إنقاذي وأمي وأختي، بإطلاق شيء قذفه بعدما أشعله، فأخرج ذلك الشيء ضباباً من الدخان، أعمى أعين الجند وأحدث ارتباكاً كبيراً ولم نشعر إلا ونحن مع الرجل في مكان ما تحت الأرض تضيئه المشاعل..
قلت له ممتناً لصنيعه:
- ما فعلته أشبه بمعجزة.. كيف أطلقت كل هذا الدخان؟
- طريقة تعلمتها من والدك، أنا أحد تلاميذه، صداقتك لسلطان أبعدتك عن معرفة والدك .
-ولمَ لم يهتم والدي بإبعادي عن سلطان؟
- لأنه رغب أن تكتشف الحقيقة بنفسك، علمني والدك الكثير وحين عرفت بنبأ اختفائه بعد عودتي من رحلتي الطويلة.. جن جنوني، شعرت كمن يفقد أحد أهم محاور حياته.. بحثت عنك طويلاً فلم أرك.. قيل لي أنك مريض، وتعتزل الناس، بعدما أصابك اليأس من محاولة إقناعهم بمقاومة الظلم..
كان المكان أشبه بكهف ضخم يتفرع إلى أنفاق وممّرات، تضيئها المشاعل، وفي بعض زواياه أثاث للنوم وصناديق فيها كتب ومخطوطات.. كان من الواضح أن الغريب يقيم فيه.. تجولنا قليلاً لنتعرف على ممراته وأنفاقه، كان هائل الاتساع. وقد أكد الرجل لنا: - أنه مكان لا يعرفه أحد، ستبقون فيه المدة التي تريدون.
- من الأفضل أن تذهبي يا أماه وعفراء إلى بيت عمي الأكبر في القرية البعيدة..(مودس) هذه الأيام تفقد توازنها، بفقدان أبنائها لعقولهم.
قال الرجل: -وأنا مع فاضل يا خالة.. من الأفضل لكما أن ترحلا.
- وأنت يا فاضل. ما الذي ستفعله هنا؟
- سأنفذ وصية والدي يا أماه.. سأبقى هنا أقاوم الظلم.
قالت أختي: -لم لا نبقى هنا معك، لنقاوم الظلم جميعاً"؟
- أرجوك يا أختاه.. لا مكان لكما هنا.. أعدك أنني سآتي إليكم حالما تأتي اللحظة المناسبة للقائنا من جديد..






-12-

وقرأ الشيخ حمدان صفحات جديدة من مخطوط جده الأكبر فاضل، حكى فاضل كيف أفسد كعب وسلطان الجميع، وسيطر عليهم بعبودية مطلقة، وجمع العديد منهم لينحتوا في الصخر بيوتاً..
وبدأت العملية بتواتر منتظم، وأشرف الأمير سلطان عليها، كان يعتبره المشروع الأهم في حياته، بنى بيوتاً من الصخر لجواريه، ونحت أمكنة للهو، وأمكنة لتكديس المال..
ونحت أقبية للمسجونين، ودفن العديد منهم وهم على قيد الحياة.. وتحولت مودس إلى مدينة مستسلمة لقدرها، وقد ساد فيها الفساد والكذب ووأد النفوس الخيّرة..
***
توقف الشيخ: حمدان عن القراءة قليلاً وهو يرمق عامر باهتمام.
- إنها قصةً محزنة، وما بقي منها أشدُ إيلاماً.
- استمر يا عماه، أريد أن أعرف ما جرى بعد ذلك، وكيف حدثت الكارثة..؟
أكمل متنهداً بحزن:
- ظلَّ كعبُ رُغمَ تقدمه بالسن، يتصيّدُ المتعة، ويتلّهى بتعذيبِ عبيدِهِ، ويقوّي من أزرِ ولده.. وازداد الظلم إلى حدٍ لا يمكنُ وصفه
- ولم ينفجر الناس بعد؟
- يؤكد جدي الأكبرُ أنه تمكنَ بصعوبةٍ كبيرة وبمعونةِ بعض تلاميذ والده من الوصول إلى إيجاد تجمعٍ للناس الذين انضموا إليه كي يقاوموا ما يفعلُه أتباع الأمير ووليُّ عهده.
- وكيف كان جدك الأكبر يا عماه، مستشاراً لكعب؟ هذا الطاغية الذي لا يرحمَ أحداً؟ أمر غريب فعلاً..
- كان كعبُ وليّاً للعهد، حين التحقَ والدُ جدي بالعمل في حاشيته، نتيجةً لنصيحة الأمير(قابس) والد كعب.. وقد رأى في والدي رجلاً حكيماً، قد يؤدب ولده ويرشده.. ولكن كعب الذي تزوج من ابنة أحد الوزراء قد تحول بالتدريج بعد وفاة والده وقد رأى السلطة جميعها في يده، والناسُ تدينُ له.. تحوّل إلى رجلٍ يجري وراء المُتعة، وحاولَ والدُ جدّي الأكبر إيقافه عن جُموحِه نحو المتعة بهدوء وصبر ولكنه لم يستطع، وأدى هذا التدخل المستمر من المستشار الحكيم، إلى أن يغضب عليه الأمير كعب، وجرى ما جرى.
- حكاية غريبة.. وماذا حدث لمدينة(مودس)؟
- بعد أن كثرَ الفسادُ والظلم؟ حسناً سأقرأ لك ما كتبهُ جدي الأكبرَ في نهاية مخطوطته:
((رأينا أحلاماً مخيفة لعدة أيام متتالية، كانت كلها تدور حول حرائق تصيب المدينة، وزلازل أرضية، وأجسام تتساقط من السماء وكأن تلك الأحلام نبهتنا إلى أن قدر المدينة أن تسير نحو الهاوية...
وهكذا اجتمعنا في مكان ما تحت الأرض، وقد ضاق المكان بنا، كان الذين انضموا إلينا قد أحضروا نساءهم وأطفالهم وأشياءهم الضرورية.. وهذا ما جعلنا نفتح السراديب على بعضها ليتوزع الناس.. ولم أنسَ تلك الأيام ولن أنساها.. في أحد الأيام كانت هناك امرأة تصرخ باسمي:
- يا سيدي فاضل.. يا سيدي فاضل.
- ما بك يا امرأة ماذا تريدين؟
- رأيته بعيني، رأيته بعيني، إنه يطير فوق المدينة.. طائر ضخم مخيف.. إنه شديد السواد، ويطلق أصواتاً مخيفة.
- ومتى رأيته؟
- قبل قليل.. خرجت أفتش عن ابني الذي يعمل حارساً عند الأمير سلطان..
- وكيف سمحوا لك بالخروج؟ ألم تعرفي أن الخروج من هنا ممنوع الآن.
- هذا ما جرى يا سيدي.. بحثت عن ولدي ولقيته.. طلب مني أن أبتعد حتى لا يراني أحد.. فيعاقبه الأمير سلطان.. ودعته وأنا أبكي وابتعدت، خائفة حزينة، جلست في مكان منزوٍ، وإذا بالظلام يحلُّ فجأة، نظرت إلى السماء لأرى ذلك الطير الأسود الضخم..
فكرت متسائلاً: ((معقول؟ تبدو صادقة وهي تروي الحادثة.. لا بأس يجب أن أستكشف الأمر)).
ثم قلت لها: - حسناً.. عودي إلى مكان إقامتك..
- وماذا ستفعل؟ أتعرف شيئاً عن ذلك الطير؟
- حتى الآن لا أعرف ماذا سنفعل، وبالطبع فقصة هذا الطير تبدو فريدة يا خالة..
- لم أر في حياتي طيراً بضخامته.. كأنه سحابة سوداء متكاثفة، لا تسمح بنفاذ الضوء.
- حسناً، عودي إلى مكانك بسرعة.
واقترب رجل آخر من رجالي: - ثمة شيء جديد يا فاضل.
- ماذا تقصد؟ ما الشيء الجديد هذا؟ أله علاقة بالمدينة؟
- نعم.. طيور سوداء كبيرة الحجم تجول حول المدينة.
- قالت لي تلك المرأة أن هناك طير واحد فقط.
- بل العديد من الطيور.. حراس المدخل حكوا لي عن ذلك.
- يجب أن نكتشف الأمر..
- ولكن بمنتهى السريّة لا نريد أن نحدث بلبلة.. لدى الناس
- معك حق.
((وخرجنا من فتحة سرية نستكشف الأمر، فرأينا طيوراً سوداء كبيرة تحوم فوق المدينة، كانت تحمل أجساماً سوداء في مناقيرها ومخالبها.. وهي تطير محوّمة.. وكان جند الأمير يطلقون نحوها السهام فلا تصل إلى الارتفاع الذي تطير به.. وقد استشاط الأمير سلطان غضباً وطلب من جميع جنوده طرد تلك الطيور الضخمة.. ولم تسفر محاولتهم عن شيء.. فقد ازداد عدد الطيور)).
حتى بالمشاعل والنار.. لم تكترث الطيور.. كان من الواضح عجز الجند والحراس وهم يخرجون بالعشرات من مناطق تواجدهم حول بيوت الأمير المنحوتة بالصخر..
ورأينا فجأة عجوزاً بوجه سمح تقترب منا:
- ماذا تفعلان هنا؟ عودا إلى المكان الذي تقيمان فيه.
سألتها باهتمام:
- لماذا تطلبين منا ذلك يا خالة؟
- لأن ما سيحدث سيكون رهيباً مرعباً.
- ومن أنت يا خالة، لماذا لا تختبئين ما دام الذي سيحدث سيكون رهيباً مرعباً؟
- لا تكثر من الكلام يا بني.. واذهب مع رفيقك إلى حيث المكان المناسب لاختبائكما.
وصرخت تحاكي الطيور:
- هيا أيتها الطيور تحركي، زلزلي الأرض، دمري هذه الصوامع المليئة بالفسق والظلم والفساد.. هيا أيتها الطيور..
كانت تركض مطلقة كلماتها وصراخها.. وهي توجه بصرها إلى الجو وبدت سريعة رغم تقدمها في السن يا لها من عجوز غامضة.. عدنا إلى ملجئنا، كانت الطيور تبدو وكأنها تستعد لقذف ما تحمله فوق المدينة يا إله السماوات، كم ستكون الكارثة كبيرة الحجم؟
((وعدنا إلى مكمننا مع بقية الناس الذين لجأوا إلينا، وبدأت تصلنا أصوات مدوية هزّت الأرض من حولنا، فلقد أطلقت الطيور السوداء الضخمة التي غطت أسرابها وجه الشمس، أطلقت كل ما لديها من أجسام ثقيلة صوب القصور والبيوت المنحوتة.. ودكّت تلك الأجسام كل الدور المزخرفة التي امتلأت بالظلم والفساد، وزلزلت الأرض حولنا، واشتد عويل النساء والأطفال.. كان يوماً مرعباً لا يمكن لنا أن ننساه.. ودمّرت الكارثة مدينة(مودس) الكبيرة تدميراً أتى على كل شيء، ودفن بين الأنقاض الأمير الظالم وحاشيته وأتباعه وخدمه وجواريه ومخازن أمواله.. كما دمرت كل الذين استسلموا له ليستعبدهم ويمتص منهم نامة الإحساس الإنساني المقاوم)).
وتابع حمدان يقرأ:
- ويستمرُ جديَ الأكبرُ في سرد تفاصيل الكارثة، وكيف صعدوا بعدما هدأ الزلزال وتوقف تساقط الأجسام الثقيلة.. ليجدوا أن كل شيء اختفى، أزيلَ عن الأرض تماماً، ولا أثر للقصور والمنازل الضخمة والكهوف المنحوتة التي تزخر بالتماثيل الجميلة، وأدوات المُتعة على اختلاف أشكالها.
- إنها حكاية أشبه بأسطورة.
- وظل صوت كعبٍ وولده سلطان يدويان في المنطقة يستغيثان من العذاب، وقد سمع جدي تلك الأصوات الغريبة التي تردد صداها بعد انتهاء الكارثة لعدة أيام.. كانت تذرفُ دموعَ الندم والتوبة، وتتوسلُ أن يتوقفَ عذابُها لكن دون جدوى.. وهكذا عاد جدي الأكبر يحاول بناءَ ما بقي من مخلفات الدمار.. مستعيناً بأولئك الناس الذين رفضوا الظلم وقاوموه لتنهض(مودس) جديدة صغيرة، أحب فيها الجميع الخيرَ، وتعاونوا من أجله
- هذه هي حكاية المدينة إذن؟
تنهد الشيخ حمدان وهو ينظر إلى عامر بعمق:
- وقد طلبت مني زوجتي أن أحكيها لك، وهو طلبٌ له مبرراته بالتأكيد.. ولكن ما هي هذه المبررات؟ بالتأكيد لا أعلم.. هيا بنا نعود إلى البيت.. سنعيد كل شيء إلى ما كان عليه هنا..





-13-
أعاد الشيخ حمدان ترتيب المكان وأقفل الصندوق المتطاول بعدما وضع فيه المخطوط الغريب كما أعاد ترتيب الصناديق مكعبة الشكل، وحرّك الصخرة الكبيرة التي تسدّ مدخل الكهف، وخرج وعامر إلى العراء، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها لتمحو أي أثر يمكن أن يعرف على الكهف..
سار عامر صامتاً إلى جانب الشيخ وهو يستعيد الأحداث ويفسرها.. حتى وصلا إلى بيت الشيخ حمدان المنزوي في جانب المدينة المخفيّة تحت الأرض.
قالت لهما سمية بلهفة: - الحمد لله أنكما عدتما أخيراً، لقد عادت أمي إلى سباتها الطويل، أنها لا تتحرك.
هدّأها حمدان:
- لا تقلقي عليها، لم يحن أجلُها بعد.. ربما تغيبُ في سباتها لأيام..
- كانت تبدو حزينة دامعة.. يا لقلبي الذي يعتصره الحزن عليها؟
- سأذهب لرؤيتها، انتبهي لنفسك، هدئ من روعها يا عامر..
- سأفعل يا عماه.
خرج الشيخ حمدان، همس عامر بحب: - سمية أرجوك لا تزيدي من عذابي مازالت صور الكارثة تتخايل أمامي.
- سأحاول أن أتماسك يا عامر.. ولكن والدتي حكت لي أشياء كثيرة مرعبة قبل غيبوبتها.
- سأبعد عنك الخوف والرعب يا حبيبتي، لن أجعل الحزن يعرف طريقه إلينا.
- ولكن القدر أقوى من كل الأماني يا عامر..
- ماذا تقولين يا سمية؟ لماذا هذا التشاؤم؟
- ألم أقل لك، حكت لي والدتي أشياء كثيرةً مُرعبة قبلَ أن تغرَقَ في السُبات.
- مثل ماذا؟ قولي يا سمية.. أرجوك.
- لا أستطيع.. لم تُعطني إذناً.. بذلك.
- لا بأس.. كما تريدين.. ما رأيك لو نذهب لزيارتها معاً؟
- أمي في سُباتها الطويل لن تستيقظ سريعاً، وأخاف أن لا تستيقظ أبداً.. لو تعلم كم هي مُهمةٌ بالنسبةِ لنا.. إنها مِفتاحُنا على العالم، لولاها لكانت عزلتنا شديدة القساوة.. أنتَ الوحيدُ الذي اخترق عزلتنا يا عامر..
- أليست هناك قرى ومدن قريبة من(مودس)؟ ألا يسافر الناس خارج مودس ويستكشفون الأماكن البعيدة؟
- لا يا عامر.. منذ أن تفتحت عيناي على النور، لم أر أحداً يسافر ويعود من جديد، حتى إخوتي ذهبوا ولم يعودوا، لذلك قرر المجلس الاستشاري منع السفر والرحيل، والاكتفاء بالحياة هنا وقراءة أسفار الأجداد والتعلم منها.
- الآن فهمت كيف أخرج حضوري المفاجئ سكان المدينة عن رتابة حياتهم.. ولكني لن أقيم هنا إلى الأبد.. سأعود للبحث عن سيارتي الغارقة في لرمال وأكمل سفري إلى بلدي في الشمال..
همست بخوف:
- كيف؟ وتتركني؟
ضمّها إليه بحب:
- لا.. سأصطحبك معي كزوجة وحبيبة.. لا أستطيع الابتعاد عنها للحظة واحدة.. أنت كل شيء في عالمي الآن.
زفرت بحزن وهي تهز رأسها:
- ليس الأمر سهلاً كما تظن.. أمي ستقرر خياري.. حينما تستيقظ من سباتها هذا إذا استيقظت.
- لماذا لا نذهب إليها الآن يا سمية؟ أرجوك.. قلبي يحدثني أن أمراً ما يحدث هناك.
استسلمت لطلبه: - لا بأس يا عامر.. تفضل سنذهب إلى أمي.. وأرجو أن يكون حدسك في محلّه..
وحين وصلا غرفة الأم قالت لهما الخادمة:
- سيدتي نائمة بعمق لم تستيقظ بعد.. والشيخ حمدان إلى جانبها.
- هل منعتنا من زيارتها؟ أقصد أنا وعامر؟
- لم تقل شيئاً من هذا القبيل.
همهمت سمية: - ادخل يا عامر.. الحمد لله لم تَمنع عنا زيارتها في سُباتها.
كان تنفسها مضطرباً.. تتنفس بسرعة قليلاً ثم تخمد وتسكن تماماً كأنها ميتة.. خاف عامر وسمية أن تكون العجوز قد دخلت مرحلة الخطر.. هز الشيخ حمدان رأسه:
- من يعلم؟ ما الذي يخبئه الله لها ولنا؟
ولكن تنفسُها عاد من جديد.. بدأت الخادمة في محاولة لإيقاظها:
- سيدتي هل تسمعينني؟
شجعها الشيخ حمدان: - حاولي معها.. قد تستيقظ..
همس الشيخ حمدان موضحاً لعامر:
- لابد أن لغة مشتركة بينهما. إنها تقيم معها منذ بدء مرضها هي تعرف الكثير مما لا نعرفه عنها.
واستمرّت الخادمة تحاول إيقاظ العجوز:
- أتسمعينني يا سيدتي.. الجميع هنا حولك الشيخ حمدان وسمية وذلك الغريب.. إنهم حولك.
فتحت العجوز عينيها بهدوء ونظرت حولها ثم تمتمت: - آه.. اسندي رأسي..
أخذت تحدق شاردة في البعيد:
((آه يا إلهي.. كنت أطير فوق البلدان، رأيت الكثير من الحوادث المرعبة.. آه.. لا أستطيع أن أفتح عيني مازلت أحلق فوق(مودس) المنغلقة على نفسها.. آه.. سمية يا ابنتي))
- أنا إلى جانبك يا أماه.
- ستغادريننا سريعاً وتعانين الكثير.. ولكن عامر سيكون قوياً يحميكِ ويبعد عنكِ الأذى.. آه لا أستطيع أن أفتح عيني.. أنت ستدخلين أمكنة لم تريها من قبل، سيكون كل شيء مدهشاً غريباً.. أرى طريقاً أسود ينقلك فوقه جهاز عجيب يدور يتحكم به عامر.. آه هناك متاعب في الطريق.. الأشرار في كل مكان.. ولكن لا خوف عليكما من قوى الشر.. آه.. لست أدري ما الذي يضغط على صدري؟
سألتها الخادمة: - هل أرفع رأسك قليلاً يا سيدتي؟
لا.. لا داعي لذلك.. اسمع يا حمدان.
- نعم يا أم سمية.. ماذا تريدين؟
- ستظل مدينتنا الصغيرة منسية لسنوات طويلة أخرى، وسيظل سكانها معزولين عن العالم.. آه يا حمدان.. العالم حولنا يزداد حركة وغرابة.. آه.. أنا أدور فوق مدن ليس فيها سوى الأبنية العالية والطرق السوداء التي تسرح فيها آلات كالحشرات السريعة تبدو لي وأنا أطير فوقها.
- ألا تريدين أن تقولي شيئاً يا أم سمية؟
- معك حق.. يجب أن أقول شيئاً للناس فأنا سأعود إلى سباتي الطويل، كان يجب أن لا أستيقظ الآن ولكنني عدت من سباتي من أجل عامر وسمية.. إنهما متحابان.. بارك حبهما يا حمدان.
وانتبه للناس، شعرت بقلبيكما الصغيرين يا بني ينبضان بحب صادق.. رغم كل ما هو موجود حولك من إغراءات فأنت صادق الطوية يا عامر..
- أنت امرأة نادرة يا خالة.
- آه.. حمدان.. اذهب إلى الركن الشرقي من(مودس) هناك شجار بين رجلين حول قطعة معدنية رأياها بين تلال الرمل، إنها ليست قطعة فقط.. ربما آلة كبيرة أشبه بالآلات التي تسير بين المدن ذات الأبنية العالية والطرق السوداء.. آه.. هيا يا حمدان.. اذهب إليهما سريعاً ولا تنسى أن تزور الشيوخ وتقدم لهم المساعدة.. الناس هنا مازالوا راضين بعيشتهم الرتيبة.. وجود عامر بينهم يدهشهم ويزيد من استغرابهم، وفضولهم لمعرفة ما يجري خارج مدينتهم في العالم البعيد"
سعلت سعالاً شديداً، سألتها الخادمة:
- ما بك يا سيدتي، هل أحضر لك الماء؟
- لا بأس.. يبدو أن سباتي سيكون طويلاً بعد قليل.
أحضرت لها كأساً من الماء شربت منه بهدوء:
- اخرجوا الآن.. رافق حمدان يا عامر.. وأنت يا سمية انتظري عودتهما.. لا أريد أن يزعجني أحد حتى تخبركم خادمتي.. هيا.
- ليكن الله معك يا أم سمية..
انفجرت سمية بالبكاء أوقفتها العجوز بإشارة من يدها:
- لا تبكي يا ابنتي.. يجب أن تظلي قوية متماسكة.. مع السلامة.. هيا أنقذ الرجلين يا حمدان قبل أن يفتكا ببعضهما.
- حالاً.. هيا يا عامر.. وأنت يا سمية ابقي في غرفتك.. لن نتأخر طويلاً..
همهمت العجوز لخادمتها وهم يخرجون:
- أعيديني إلى وضعي.. آه.. يجب أن أعود إلى عوالمي الغريبة.
- نعم يا سيدتي..







-14-

توجه الشيخ حمدان وعامر صوب الركن الشرقي من(مودس) لم يكن المكان بعيداً اجتازا الأزقة الضيقة بين البيوت الحجرية، ولم يكن الضوء المتسرب من الفتحات العلوية للمدينة كبيراً ولكنه كان كافياً لرؤية الطريق..
كان هناك تجمع لبعض الناس من سكان المدينة، وصلت الأصوات إلى الشيخ حمدان وعامر، فهرعا مسرعين صوب المكان.. كان هناك رجلان يتعاركان عراكاً شديداً، كما وصفتهما أم سمية:
- لقد اكتشفتها أولاً، ولن أدعك تقاسمني، سأضعها في ساحة المدينة ليتفرج عليها الناس، ستدر علي ربحاً وفيراً.
- لولا مساعدتي، لم تستطع استخراجها من تلة الرمال تلك.. لي الحق بجزء منها.
- أترون يا ناس.. يريد ثمن مساعدته؟
- إنه حقي..
دخل الشيخ حمدان ومعه عامر بين الجمع:
- ما الذي يجري؟ أمعقول أن أرى الشجار يتطور إلى هذا الحد؟ لماذا تحملان السلاح؟ أتريدان استخدامه؟
- لقد حاول الاعتداد على حقي يا شيخ حمدان ، تصور عثرت على قطعة معدنية ضخمة جميلة في إحدى تلال الرمال، استغرق مني ذلك جهداً كبيراً، لا أنكر أنني استعنت به، ولكنه يرغب بمقاسمتي .
قال الرجل الآخر: بذلتُ جهداً كبيراً أيضاً.. وهذا من حقي.
وتدخل أحد الشيوخ: -حاولنا إقناعهما بالهدوء، ولكن كلاً منهما أصرّ على موقفه .
سأل حمدان: - أين هذا الشيء الذي تتشاجران من أجله؟
- إنه في الأعلى سأستخدم الخشب الطويل لجره لساحة القرية.
- يجب أن أراه.
- يجب أن تحكم بالحق، إنه ملكي يا شيخ حمدان أرجوك.
- ولكن لولاي لم تكن تستطيع إخراجه، ساعدتك وبذلت جهداً يوازي جهدك أيضاً.
- توقفا عن الكلام.. أريد رؤية هذا الشيء هيا.
سار الجميع نحو المكان الذي دل عليه الرجل كان قد غطى ذلك الشيء بقماش بمساحة كبيرة وحالما رفع الغطاء صرخ عامر مذهولاً بفرح: - سيارتي.. عثرت عليها أخيراً.
أوقفه الرجل: - ماذا تقول أيها الغريب؟ ابتعد عن هذا الشيء إنه ملكي..
- سيارتي بوضع جيد أيضاً.. لا أصدق نفسي..
عاد الرجل يهدده:
- لا تقترب منه.. أحذرك.
أوقفه حمدان:
- هذا الشيء هو ملك له، هذا الغريب حضر به إلينا.
أدار عامر محرك السيارة فبدأت بالحركة صاح فرحاً: - إنها تعمل.
ابتعد بها وسط دهشة الجميع: - إنه يسير وحده.. يا إلهي.
أيقظهم حمدان من دهشتهم:
((استمعوا إلي جيداً.. ذلك الشاب قذفته إلينا زوبعة رملية طمرته الرمال، وطمرت هذا الشيء بعيداً عنه.. كنّا نحاول البحث عنه قبل أيام.. ولم نكمل بحثنا.. هذا الغريب أتى من البعيد بهذا الشيء، إنه من عالم مختلف عنا..وسيرحل به إلى بلاده البعيدة.. لا نستطيع أن نقف في وجهه)).
صرخ الرجل: - يا حسرتي على الجهد والتعب الذي بذلته من أجله.
وأكمل الآخر: - وأنا أيضاً بذلت الكثير من الجهد.
- سنرى ما يمكننا أن نكافئكما به على صنيعكما من أجل هذا الضيف الغريب.
قال شيخ: - أليس من العار أن تطالبا بمكافأة؟ إنه عمل خير، وعمل الخير لا يجب أن يكون له ثمن.
قال حمدان: - معك حق.. ولكن إن رغبا بمكافأة، لن نتأخر في تقديمها لكل منهما.
انبرى الرجل رافضاً الفكرة:
- لا يا شيخ حمدان ما دام الوضع هكذا لا أريد شيئاً.
وقال آخر:
- وأنا أيضاً يا شيخ حمدان لا أريد شيئاً..
تنهد حمدان بارتياح:
- الحمد لله.. الآن ثبت لي أن أبناء(مودس) مازالوا يحتفظون بنزعة الخير لديهم.. هيا تصافيا وتصالحا.
- بارك الله فيك يا شيخنا..
كانت السيارة بوضع جيد، شكرهما عامر بارتباك: - لا أدري ما أقول لكما.. وبماذا أكافئكما؟
- لا تقل شيئاً.. نحن سعيدان بعثورك على هذا الشيء.
- نعم.. لا نريد شيئاً منك.. نتمنى لك التوفيق.
كان العثور على السيارة أمراً مفاجئاً لعامر، الذي عاوده هوس الرحيل وقد تذكر أقوال أم سمية عنه وعن سمية ورحيلهما معاً..
ولم يلحظ الحزن الذي سيطر على الشيخ حمدان، وقد شعر بنيته للرحيل بابنته بعيداً.. كانت سمية المخلوقة الوحيدة التي شعر نحوها بحب يفوق الوصف كانت ابنته وصديقته ومستودع أسراره، والوحيد الباقي من أبنائه ولكن رغبة الأم كانت بمثابة أمر لا يمكن مخالفته.
ركن عامر سيارته في مكان يطل على مدخل المدينة الشرقي، ثم هبط وبقية الرجال إلى المدينة.. وتفرق عنه الجميع ولم يبق سوى الشيخ حمدان الصامت الدامع..
وكأنما شعر عامر بحزن الشيخ حمدان.. هذا الحزن الذي بدا سببه واضحاً وهو اصطحاب عامر لسمية معه.. وفي بيت الشيخ حمدان دار حوار افتتحه عامر بالقول:
- ستكون سمية أمانة في عنقي يا عماه، لن أسمح لشيء أن يزعجها مهما كان
تنهد حمدان وهو يربت على كتفه:
- لا بأس يا بني.. تلك هي رغبة أم سمية، ستتزوجان غداً وإن رغبتما بالرحيل سريعاً سنسهل لكما ذلك ما استطعنا..
- وأنا جاهز يا عماه لتنفيذ رغبتك.
زفر الشيخ بحزن:
- سترحلان بالتأكيد، سريعاً أعلم ذلك، أنت من عالم مختلف، ويجب أن تلتحق بهذا العالم..
أكدت سمية: -إنه قدري يا عامر، حكت لي أمي كثيراً عنه.
هز حمدان رأسه بحزن:
- هيا نستعد ليوم الغد، سيكون احتفالاً كبيراً لم تشهده(مودس) منذ زمن بعيد.
وقضى عامر ليلته الأخيرة في(مودس) وهو يفكر بالأيام المقبلة.. حيث سيكمل رحلته مع سمية إلى بلاده في الشمال شرق البحر المتوسط..
كان سعيداً برحلته مع الفتاة التي تعشّقها قلبه.. متجاهلاً الكآبة التي ظهرت على محيّا الشيخ حمدان رغم تظاهره بالسرور والفرح.
انفرد بسمية لدقائق قبل أن يتدفق الضيوف إلى بيت الشيخ حمدان تعبيراً عن مواساتهم له برحيل ابنته الوحيدة الباقية..
وأتت خادمة أم سمية تسأل عن عامر.. وحين التقى بها قالت له هامسة:
- استيقظت سيدتي للحظات وطلبت مني أن أنقل إليك الاتجاه الذي يجب أن تسلكه في الرحيل بآلتك مع سمية..
- هل حددت لكِ هذا الاتجاه؟
- قالت لي فقط ليتجه عامر بآلته بحيث يكون نجم القطب إلى يمينه فسيصل الطريق الذي ينشده لا تنسى يا سيدي.
- لن أنسى أبداً.. بارك الله فيك.
سأله حمدان: - قالت لك عن الوجهة التي يجب أن تسير بها؟
- نعم.
- لم تنس شيئاً أبداً.. كن مطمئناً يا بني، ستظل قلوبنا معك ما دمت إلى جانب سمية، إنها أغلى شيء في حياتنا.
- إنها أعز من عيني.. لا تقلق يا عماه".
دارى الشيخ رأسه منسحباً وقد سالت الدموع من عينيه رغماً عنه..





-15-

وفي اليوم التالي، استيقظ عامر على دقات الطبول وعزف ناي حزين، كانت المدينة الصغيرة قد تجمعت كلها في الساحة الوحيدة بين الصخور..
كانوا رجالاً ونساءً وأطفالاً يرتدون لباسهم التقليدي ويتجمعون في حلقات شهدت بعض مظاهر الفرح الذي يراه عامر لأول مرة في مجتمع(مودس) الصغير.
أتى بضعة شبان إليه وألبسوه زيهم التقليدي وأهدوه سيفاً مزخرف الغمد ثم اصطحبوه إلى السرادق حيث اجتمع وجهاء المدينة.
رأى نفسه فجأة أمامهم، فشعر بارتباك ولكن الشيخ حمدان غطى على ارتباكه بتعريفه بضيوفه:
- هذا الزواج الذي باركته(أم سمية) وطلبت مني التعجيل به، يجري لأول مرة منذ سنين طويلة بين فتاة من(مودس) وغريب حطَّ علينا فجأة من رحم الغيب، فلم نجد فيه سوى الشهامة والرجولة والنبل .
- بارك الله بك يا عماه، وأرجو أن أكون عند حسن ظنكم بي.
- أكان العثور على آلته الغريبة هو الذي عجّل برحيله؟
- تعلمون أن كثبان الرمل الصغيرة تخفي الكثير من الأشياء المعدنية التي لا نعرف عنها شيئاً.. إنها تأتي مع الزوابع وتندفن في الرمل، نحن مختفون في قلب الأرض، والعالم حولنا كبير ومجهول.
- هل يعني أننا قد نخرج من عزلتنا يا شيخ حمدان؟
- لا أدري، وإن كنت أعتقد أن خروجنا من عزلتنا لم يأتِ أوانه بعد.
- قد تكون سمية، هي أول سكان(مودس) تخرج من هذه العزلة الطويلة المستمرة.
- مكتوب بالألواح أن من يخرج من (مودس) لا يعود إليها أبداً.. لقد فقدت أولادي الشبان، والعديد منكم فقد أولاده الذين رحلوا في الظلام خارج (مودس)، ولم يعد أي منهم حتى الآن.
- يعني أن سمية لن تعود إلينا أبداً؟
- الله وحده يعلم.. قد يحدث ذلك، ولكن على الأغلب لن تعود..
قال عامر مخففاً: - قد نحاول زيارتكم في المستقبل.. إنه وعد سأحاول تنفيذه.
- من الصعوبة أن تعثر على مدينتنا يا بني.. إنها مختفية تحت الأرض لا يظهر منها سوى الصخور.. وركام الصخور الضخمة منذ أن حدث الزلزال الكبير ودمر المدينة الواسعة.
وأتت سمية خجلة تهمس في أذن الشيخ حمدان:
- أبي، تطلبُكَ خادمة أمي.. لابد وأن تبلغك بأمرٍ هام.
- حسناً.. عن إذنكم يا جماعة سأعود حالاً.
قالت الخادمة حين قابلها حمدان:
- أبلغتني سيدتي أن أقول لك، أنك تبالغ بمظاهر الفرح، ويجب أن تحدّ منها.
- هل استيقظت من جديد؟
- للحظات فقط.
- حسناً.. لا بأس، سأحاول الحدّ من مظاهر الفرح.
بدأ حفل الزفاف.. وسمع قرع الطبل مصحوباً بعزف ناي.. جعل الشبان والفتيات يزدحمون في حلقة الرقص رغم محاولات الشيخ حمدان الحدّ من مظاهر الفرح..شرد عامر: ((كأنني أعيش في حلم، إنه مظهر احتفالي قد لا أرى مثله في حياتي)).
- عامر.. ما بك؟ تبدو شارداً.
- أتأمل مظاهر فرح المدينة بزفافنا.
- ولكن أبي حزين، ألم تلحظ الحُزنَ على حركاتِه؟
- لا بأس يا سمية كل الآباء والأمهات يحزنون لفراق فتياتهم اللواتي يذهبن إلى بيت رجل آخر .
- ولكني أتزوج غريباً عن مجتمع مدينتي الصغيرة.. ولن أعود إلى هنا أبداً.
- خائفة يا حبيبتي؟
- معك لا أخاف شيئاً، ولكني حزينة على والدي.
- إنه حزن ممزوج بفرح.
- قد لا يرى أحفاده.. من خرج من(مودس) لا يعود إليها أبداً.
- سنحاول زيارتها في المستقبل، أعدك..
واستمرت مظاهر الفرح حتى قبيل الغروب حيث صرف الشيخ حمدان الناس وهو يشكرهم.. وقاد بيديه سمية وعامر إلى البيت..
- كل شيء جاهز لرحيلكما، ما إن يعم الظلام حتى تتحركا من هنا في حفظ الله كما حددت والدتك.. اعتنِ بسميّة يا عامر.. ولا تنسى أنها ستكون غريبة بين أهلك.
- أرجوك يا عماه، لا تقل مثل هذا الكلام، لن أجعلها تحسّ بالغربة أبداً.. هي نسيم الحياة الذي أتنشقه
- بارك الله فيك.. أعددنا لكما عشاءاً خفيفاً، وحين تظهر النجوم في السماء سنودعكما إلى خارج المدينة .
قضى عامر وسمية بعض الوقت، وتناولا عشاءيهما، وكانت سمية تبكي بحرقة على فراق والدها، وبعد أن ظهرت النجوم من بين فرجات الصخور، تحرك عامر وعروسه صوب السيارة.
ورافقهما جمع غفير، وظل الناس ينظرون باستغراب للسيارة وعامر يتحرك بها بعيداً وقد وضع نجم القطب على يمينه، من الجهة الغربية من المدينة.. كما أوصته والدة سميّة..






-16-

كان يقطع الطريق الرملي المتيبس قليلاً، وأضواء السيارة تشق عتمة الليل، دون أن يتوقف، وهو يرجو أن يصل إلى الطريق المعبد سريعاً..
طالعته أضواء من بعيد، كانت هناك استراحة كما خمّن.. فشعر بالارتياح وهو يقبض بأصابعه على أصابع سمية التي تكوّمت ملتصقة به.. أوقف السيارة ثم خرج منها قرب الاستراحة:
- سنستريح قليلاً، قبل أن نتابع رحلتنا.
- كما تشاء، افعل ما ترغبه يا عامر.
- انتظري قليلاً، سأرى من في الاستراحة وأعود إليك.
- حسناً يا عامر.
دخل عامر فوجد رجلاً مسناً:
- السلام عليكم.. ألا أحد هنا سواك يا عم؟
- لا يا بني، أنا أقيم هنا، ولا سيارات عابرة مسافرة في هذه الأيام فالطقس شديد الحر.
- نحتاج لبعض الماء والطعام.
- سأحاول أن أؤمن لك ما تشاء.. ولكن كيف تغامر بالرحيل في هذا الجو المضطرب، قد تنشأ الزوابع الرملية في أية لحظة.. العديد من المسافرين فقدوا داخل الرمال نتيجة تلك الزوابع؟
- الحدود بعيدة عن هنا؟
- ليس كثيراً بضعة كيلو مترات فقط.. تسافر وحيداً؟
- لا.. زوجتي معي إنها في السيارة.
- أصلحك الله كيف تسافر مع زوجتك في هذه الصحراء الشاسعة التي لا تخلو من وحوش الليل وقطاع الطرق.
- سافرت كثيراً من قبل ولم أتعرض لأي خطر.. عن إذنك سأحضر زوجتي..
اتجه صوب السيارة: -هيا يا سمية..
كانت نائمة.. لم يوقظها. أحضر الطعام إلى السيارة. وتابع المسير.. منطلقاً على الطريق العام وسمية نائمة إلى جانبه بعمق، وفجأة تذكر شيئاً فتحرك بقلق، وهو يراهم عن بعد:
- إنهم حرس الحدود، يا إلهي كيف لم أنتبه، ليس لدى سمية جواز سفر، كيف سأعبر بها الحدود؟
كان في السيارة متردداً بالاقتراب من رتل السيارات التي تعبر الحدود حين اقتربت منه سيدة عجوز:
- الأستاذ عامر؟
- نعم.. خير يا خالة؟
-.. لك أمانة عندي، انتظرتك طويلاً.. تفضل.
أعتطه مظروفاً وحين فتحه فوجئ مفاجأة لا توصف: ((يا إلهي معقول؟ إنه جواز سفر لسمية من أين أحضرته يا خالة؟ ومن الذي أعطاه لك؟))
- زوجي يعمل بالجوازات، وقد أتت لزيارتنا امرأة مسنة مريضة قليلاً، ومعها هذه الفتاة، وطلبت من زوجي أن يجهز جواز سفر لابنتها بسرعة كبيرة.. بارك الله بها، لقد شفت لي ابني من مرضه الطويل.. إنها أشبه بالقديسات.. عن إذنك يا أستاذ عامر..
شعر بالذهول وهو يتأمل جواز السفر، ويحدق بسمية النائمة.. ثم خرج من السيارة يقدم أوراقه لحرس الحدود وعبر الحدود مع زوجته بسهولة لم يكن يتوقعها.. واتجه صوب الشمال سعيداً للحظ الذي حالفه، ومستغرباً كيف أتاه جواز السفر، بتلك الطريقة التي لا تصدق؟
لابد وأنها(أم سمية) تلك العجوز الغامضة، ذات القدرة الخارقة التي ساعدت ابنتها بطريقة مجهولة.. غامضة أيضاً!!
ولم تستيقظ سمية، إلا مع تباشير الصباح الأولى.؟
- أين نحن الآن يا عامر؟ آه يا إلهي..
- أنت معي يا حبيبتي، يبدو أنك نمت طويلاً..
- كان حُلماً غريباً.. قادتني فيه أمي إلى مبنى كبير، لتقابل رجلاً يرتدي مثل لباسك وهي تهمهم ستحل المشكلة لا تخافي.. ولم أعرف عن أي شيء تتحدث.. آه مازلتُ أذكر ذلك المبنى الأبيض الكبير.
- لم يكن حلماً عادياً.. يا إلهي.. ألست جائعة يا حبيبتي؟
- قليلاً.. ألديكَ طعام؟
- نعم.. سنتوقف قليلاً ونتناول بعض الطعام قبل أن نتابع سيرنا.
تابع عامر وسمية طريقهما صوب الحدود الأخيرة.. واجتازاها بسهولة أيضاً وقبيل المغرب بقليل وصل إلى المدينة الصغيرة..
اجتاز الشوارع حتى وصل إلى حيّه الفقير.. كان خائفاً مرتبكاً من استقبال أمه له ومعه عروسه الغريبة من تلك المدينة المجهولة(مودس) بين رمال الصحراء وصخورها..
استقبله اخوته بفرح كأنهم لم يصدقوا وقد انقطعت أخباره عنهم لنحو أسبوعين متواصلين..
منذ أن هتف لهم أنه قادم وسيصل خلال يومين.. استغرقت رحلته أسبوعين في حساب التواريخ، أخذ يبرر لهم تأخره من أنه أراد أن يفاجئهم بزواجه.. وكان الشيء الذي يخاف منه هو أن يتقبلوا زواجه باستغراب وعدم رضا.
ولكنه شعر بالسعادة لأنهم أحبوا سمية التي انطلقت بالحديث تجاريهم بأحاديثهم البسيطة عن المرأة والزواج والأولاد..
ودخل معها إلى غرفة أمه المريضة.. وهو قلق خائف:
- آه يا بني.. خفنا عليك كثيراً.. الحمد لله أنت بخير.
- هذه زوجتي يا أماه.
- رأيتها في الحلم، بارك الله لكما.. لقد أحببتِك كثيراً في الحلم، وسأحبكِ أكثر وأنت إلى جانبي زوجة لابني.
- بارك الله بك يا أماه.
- أماه؟ نعم سأكون بمقام أمك يا حبيبتي لن تشعري بالغربة معي.
غمغمت: - الحمد لله.
شعر عامر أن(ظل أم سمية) معهما دائماً يساعدهما في كل شيء.. ولكنه في تلك الليلة صحا على بكاء سمية.. كانت تفتقد أهلها.. ضمها بين ذراعيه بحنان وهو يكفكف دمعها.. وقد صمم أن يحاول بعد أشهر البحث عن(مودس) المدينة المختفية في قلب الصحراء.
ولم يسلم عامر خلال إجازته من تعليق أقربائه على زواجه.. بل إن بعض بنات عمه حاولن مضايقة سمية بالسخرية من الزي الذي ترتديه، والتي أصرت أن تستقبل به الناس، رغم محاولات عامر أن يجعلها تستعيض عنه بأثواب جديدة كثيرة أحضرها لها لاستقبال الضيوف..
آه ماأروع تلك الزوبعة الرملية التي قذفت به قرب(مودس) وجعلته يعثر على سمية ويتعشقها.. ويعود بها زوجة بعدما عثروا على سيارته، كأنها لم تخدش ولم يمس أحد الأشياء التي بداخلها..؟
***
عاد(عامر) إلى البلاد التي يعمل بها.. ومعه سمية، بعد أن ودعتها أمه بحرارة وبكاء، وهي توصي عامراً بها.. وخلال مسيرته في الصحراء، شعر بالحنين لرؤية(مودس) من جديد ولكنه خاف أن يغامر بالاتجاه الذي تخيله ليضيع في صحراء مترامية الأطراف..
وهكذا تابع طريقه إلى المدينة التي يعمل بها ومعه سمية.. التي كانت شاردة وهي تلتصق به بمحبة وحنان.






-17-

ما الذي يحصل لك يا سمية؟ لماذا أنت ساهمة شاردة؟ ما الذي يجري لك؟ ألا يغمرك حب عامر وينسيك غربتك؟ خرجتما من(مودس) المدينة الصغيرة، الجزء الباقي من(مودس) الكبيرة التي دمرها الظلم والفساد فأتى الزلزال على القسم الأكبر منها، وألقت طيور سوداء كبيرة الحجم الحجارة الضخمة من مناقيرها ومخالبها فوق بيوت فسادها المنحوتة في الصخر..
كنتما سعيدين، تسع فرحتكما العالم، وتقبلتك أم عامر في وطنه، كأم لك، شعرت بحنانها يسيل عذوبة وعاطفة، فأركنت رأسك إلى صدرها باطمئنان، وهي تساهم في تعريف من حولك بك، أنت التي جئت كالحلم، زوجة لابنها، قرة عينها عامر..
***
والسيارة تقطع بهما الطريق الصحراوي صوب المدينة التي يعمل بها عامر، كانت سمية صامتة شاردة حزينة، وعامر مشفق على حزنها، وقد أيقن أنها تتذكر أهلها في المدينة الضائعة في الصحراء..
ولكن شرودها وحزنها زاد عن الحد بالنسبة له.. فأمسك يدها بحنان:
- ما بك يا حبيبتي؟ لماذا أنت شاردة حزينة هكذا؟
- إنهم هنا، في مكان ما من هذه الصحراء، أمعقول أن لا نعثر عليهم، وكيف جئت إلينا هكذا؟ كيف قذفت بك الزوبعة صوبنا وتعرفت على (مودس) وصرت واحداً من أهلها؟ يعني أن(مودس) موجودة قريبة لو بحثنا عنها جيداً..
- ترغبين بالبحث عن (مودس)؟ لا بأس يا حبيبتي.. سألبي رغبتك هذه بعد أيام.. سآخذ إجازة من عملي من جديد لأيام قليلة. وأزرع الصحراء باحثاً عنها.. لن أخذلك يا سمية.. وإن كنت أظن كما قال لي والدك، أن العثور عليها من جديد قد يكون مستحيلاً..
- لماذا يا عامر؟ ما دامت موجودة سنعثر عليها، ونحطم أسطورة ضياعها الطويل تلك..؟
- معك حق.. وأنا متحمس لرؤية أهلك من جديد، للإجابة عن تساؤلات أخرى، مازالت ترهقني حول ما حدث لنا على الحدود.. وقد سلموني جواز سفرك الذي لا أدري كيف استخرجوه..
- أمصمم أنت على الالتحاق بعملك على الفور؟ ألا تستطيع تأجيل ذلك يا عامر؟
- لا يا حبيبتي.. يجب أن ألتحق بعملي غداً، إنهم لا يرحمون من يتأخر عن عمله وقد زادت أيام تأخري عن السبعة.. ماذا أفعل وأنا أعلم القوانين الصارمة في شركتي؟ لقد قدمت لها الكثير من الإنجازات إبان فترة عملي، ولكن التأخير لأكثر من أسبوع، قد يجعلهم يصدرون قرار تسريحي، لأنني لم أرسل لهم أي تبرير لغيابي..
- حسناً.. كما تشاء، ولكن عدني أن نعود للبحث عن(مودس) من جديد
شد على يدها بحب: أعدك يا سمية.. ولن أخلف وعدي يا حبيبتي..
***
فوجئ زملاء عامر بزواجه السريع، واعتقد بعضهم أنه أحضر زوجة من وطنه، حتى لا يبقى وحيداً في بلاد ليس فيها سوى العمل ورتابة الحياة الفارغة المملة..
رتب عامر سكنه الجديد بسرعة، واشترى بعض اللوازم، ووجدت سمية نفسها فجأة مسؤولة عن البيت وعن تنظيفه، وعن طبخ الطعام، والعناية بزوجها، واعتادت سريعاً على التقنيات الجديدة التي لم تألفها من قبل.. تقنيات الطبخ والأدوات الكهربائية المختلفة، حتى فكر عامر بتعليمها الحاسوب وأسلوب برمجته، وقد رأى فيها امرأة شديدة الذكاء..
ولكن سمية لم تنسَ أن تذكر عامر بالإجازة الموعودة كل فترة وهو يؤجلها لأيام أخرى.. وفي أحد الأيام..
- لدي مهمة في المنطقة الغربية يا سمية. سأغيب ليومين فقط.. وأضع لك كل احتياجاتك في البيت قبل سفري..
- تتركني وحدي ليومين؟
- ماذا أفعل المكان الذي سأذهب إليه ليس فيه سوى الرجال..
- أين هذا المكان؟
- إنه في أعماق الصحراء، معسكري ليس فيه سوى العمال والفنيين، ومهمتي هناك، حاولت كثيراً أن أقنع الإدارة بتكليف غيري، ولكنهم رفضوا..
- لا أستطيع أن أتصور كيف سأنام وحيدة وأنت عني بعيد؟
- أرجوك ساعديني يا سمية، لقد وعدوني فور عودتي بإعطائي إجازة لمدة أسبوع.. سأتفرغ فيه لك، لنبحث عن (مودس)..
- متأكد من ذلك؟
- نعم يا حبيبتي..
- حسناً.. سأصبر على وحدتي وعزلتي ليومين.. كما تشاء يا حبيبي..
تنهد عامر وهو يضمها: - الحمد لله..
***
وسافر عامر في مهمته، وبقيت سمية وحيدة، تقفل عليها باب المنزل دون أن تأبه بمن يرن جرس باب البيت، أكان بائع الحليب؟ أم بواب العمارة أم بعض أصدقاء عامر؟..
بدا للجميع أن البيت خال من سكانه.. وهكذا نامت ليلتها الأولى بعد أن سهرت لساعة متأخرة.. وحلمت بالشيخ حمدان-والدها- ينظر إليها ويبكي.. وفي اليوم التالي.. سمعت صوتاً جهة الباب.. كانت الساعة لم تبلغ الثانية عشرة ظهراً.. اقتربت بحذر شديد تتنصت..
كان هناك حوار بين رجلين وامرأة أمام الباب..
- كيف ستستطيعان فتح الباب، يبدو مستعصياً.
- لا تخافي، لدينا وسائلنا الخاصة..
- متأكدة أن لا أحد هنا؟
- بالطبع، مر كثيرون أمس واليوم وقرعوا الباب ولم يفتح لهم أحد، يبدو أن الرجل قد اصطحب امرأته إلى منزل أحد أصدقائه، بدلاً من تركها وحيدة..
- أعطني حزمة المفاتيح لنجربها.
سمعت سمية خشخشة المفاتيح وهي تجرب في القفل بدت جميعها غير مناسبة
سمعتهم يتساءلون:
- وما العمل؟
- سنفك القفل.. وقد نكسره..
- من الأفضل أن تفكه، وتعيد تركيبه.. وحاذر أن تخلع قفازاتك..
- لا تقلقي.. قفي هناك أمام المصعد، قرب الدرجات، ونبهينا إن حضر أحد.. وإن كنت واثقاً أن لا أحد يروح ويجيء في مثل هذه الساعة.
- الأولاد في المدارس، والأمهات في البيوت والآباء في أعمالهم.. لا داعي للخوف..
- معك حق.
وسمعت سمية أصوات الطرق ومحاولة فتح الباب وهي ترتجف من الخوف.
- يبدو مستعصياً.
- دعني أجرب..
تأكد لديها أنهم لصوص، سيقتحمون البيت، ماذا تستطيع أن تفعل؟ ومن أين تطلب النجدة؟. بدا لها أنها في ورطة حقيقية..
يبدو أن اللصوص صمموا على خلع الباب وتوصلت سمية إلى قرارها أخيراً:
- لن أتركهم يستولون على كل شيء.. يجب أن أصرخ..
وفعلاً أطلقت صوتها الصارخ..
- أيها اللصوص.. ابتعدوا من هنا..
همهم أحدهم:
- هناك أحد في الداخل..
صرخت:
- ابتعدوا من هنا، قبل أن يتجمع الناس على صراخي..
سمعت ضحكاتهم:
- أنت وحيدة، ولا أحد في هذا الطابق، لن يسمعك أحد..
- وماذا لو صرخت، بعد أن أفتح النافذة الأمامية؟
أعطى أحدهم أمره:
- عجلوا ادفعوا الباب معي، لن نعطيها الوقت لذلك..
وفعلاً تحطم الباب وسقط وسمية تصرخ وقد فتحت النافذة:
- النجدة.. يا ناس.. اللصوص يهاجمون منزلنا..
اندفع إليها أحدهم:
- لنسكتها قبل أن ينتبه الناس..
- النجدة.. إنهم يعتدون علينا.. يا ناس.. أرجوكم.. النجدة.. النجدة
- تعالي هنا.
ولكنها لم تكن صيداً سهلاً فقد تصدت بقوة لمهاجمها،
زمجر رفاقه:
- استخدم سكينك في إسكاتها، بسرعة..
ولكنها قاومت وهي تصرخ:
- لن أسمح لك باستخدامها..
لوت ذراعه بقوة هائلة، وقلبته على الأرض ووضعت كرسياً في يدها تحاول به صد هجومهم عليها..
واندفع الصخب خارج المنزل فلقد نجح صراخ سمية في جلب بعض الناس من الشارع..
خرج اللصوص مسرعين قد أصابت ضربات سمية أحدهم في وجهه وصدره.. وبطنه.. وقد حاول بعض الناس إمساكه، إلا أنه دفع الجمع المتكاثر حوله ورفاقه وفروا مسرعين إلى السيارة التي كانت المرأة قد دخلتها وأدارت محركها.. وَضُحَ للجميع أن هناك محاولة اعتداء على البيت وعلى المرأة التي بداخله.
وخلال دقائق حضرت الشرطة.. استفسر قائد الدورية من سمية عما حدث.. وكتب الشكوى التي أبلغتها له.. وطمأنها أنه سيضع شرطياً في المدخل..
- لا تخافي يا سيدتي، لن يجرؤوا على إعادة الكرة.. ولكن أين البواب لماذا لم يظهر حتى الآن قلت إن زوجك في مهمة، كيف يتركك وحيدة هكذا؟ كان من اللازم أن تكوني معه؟
- إنه في مهمة في قلب الصحراء في منطقة بعيدة..
- ألا تعرفين أحداً هنا؟
- لا يا سيدي.. جئت وزوجي قبل أقل من شهر، لم أتمكن من التعرف إلى الناس بعد..
- لا بأس..
وأتى البواب وهو يرتجف والضابط يحدجه بنظرات غاضبة:
- كيف تركت مكانك في مدخل العمارة وسمحت للصوص أن يقتحموا بيت هذه السيدة..؟
- كنت في المشفى مع ابني..
- مع ابنك؟ ومن يشهد لك بذلك؟
- زوجتي يا سيدي.
- أي مستشفى؟ سنتأكد من ذلك.
- كيف يا سيدي؟ ألا تصدقني؟
- يجب أن تثبت أنك كنت في المشفى..
- أرجوك يا سيدي، سامحني.. لم أكتب اسمي في سجل الزوار في المشفى.. لن تجد دليلاً على وجودي هناك..
- لأنك لم تكن موجوداً هناك.. أين كنت أصدقني القول؟
همس البواب منكسراً:
- كنت في عمل يا سيدي.. في مكان قريب من هنا.. لم أفكر يوماً أن بيوت عمارتنا ستتعرض للاقتحام.. سامحني يا سيدي..
- كنت تعمل إذن؟ هذا مخالف للقانون.. يجب أن أسجنك.. أنت المسؤول عن أمن البناء.. وستعاقب لأنك أهملت واجباتك.
- أرجوك يا سيدي سيطردني صاحب البناء.. لن أعيدها صدقني.. سأستقيل من وظيفتي الأخرى..
- لا بأس. سنرى ما يمكن عمله..
اقترب من سمية بذل:
- هل أنت بخير يا سيدتي..؟
- كيف ستكون بخير وقد كسروا الباب واقتحموا عليها البيت؟
أخذ يبكي وهو يردد:
- آسف يا سيدتي
أشفقت عليه: - لا بأس.. لقد سامحتك..
واعترض الضابط:
- ولكني لن أسامحك، هناك الحق العام.. هيا جهز نفسك للرحيل معنا..
رجته سمية:
- أرجوك يا سيدي.. اتركه، إنه فقير يستحق الشفقة.. لديه سبعة أولاد، كالجراد في قبوه المعتم في البناية.
- حسناً يا سيدتي سنسامحه.. بعد أن نأخذ أقواله.. أتريدين شيئاً الآن؟
- نعم.. هذا الباب المخلوع من سيصلحه؟
قال البواب:
- سأحضر نجاراً إن سمحت لي يا سيدي.
- لا بأس ولكن بسرعة.





-18-

قضت سمية ليلتها الثانية برعب شديد، وقد تخيلت أن اللصوص عاودوا الكرة وهاجموا البيت من جديد وغفت أخيراً بعد أن تذكرت أمها.. فعاد إليها الهدوء والاطمئنان، واستيقظت على قرع الباب..
- من بالباب الآن؟ إنها السادسة صباحاً.. من الذي يطرق الباب، ربما كان البواب.. يجب أن أعرف من بالباب.
ولكنها سمعت صوت عامر فاختلج قلبها:
- افتحي يا سمية.. أنا عامر..
صرخت بفرح غامر:
- عامر.. معقول.. حمداً لله على سلامتك يا حبيبي..
- سمية، أنت بخير؟
- لماذا؟ هل حكوا لك ما جرى؟
- ما جرى؟ ماذا تقصدين؟ أحدث شيء في غيابي؟
- تبدو متلهفاً؟
- رأيت حلماً مزعجاً كأن الأفاعي تطاردك وأنت خائفة؟ أنهيت عملي بسرعة غريبة وجئت إليك خائفاً قلقاً.
- سأحكي لك كل شيء.. يا حبيبي.
حكت له ما جرى لها.. مع اللصوص، فشعر بالقهر والغضب، كيف طاوعته نفسه على تركها وحيدة؟
أحس بدفق من الحنان يتدفق في شرايينه فضمها بين ذراعيه بعاطفة جياشة..
ولكن سمية، سرعان ما عادت إلى هدوئها..
- ستطلب من الشركة منحك الإجازة كما وعدك المدير..
- أمازلت مصرة على البحث عن(مودس)؟
- نعم يا حبيبي.. أشعر بالحاجة لرؤية أهلي.. أنا مشتاقة لرؤيتهم.. قد أستطيع أن أجد(مودس) وأتعرف على مكانها بصحبتك.. عندها سيكون سهلاً علينا زيارتهم بين فترة وأخرى.. بل وإقناعهم بزيارتنا..
- أرجو أن يتحقق حلمك يا سمية.. سأستريح قليلاً ونتناول الإفطار ثم أذهب للشركة وأطلب الإجازة التي وعدتك بها..
- يا أغلى من حياتي.. آه كم أحبك يا عامر..
- وأنا أحبك يا سمية حباً يفوق الوصف..
ناما بعمق تلك الليلة.. وبعدما حصل عامر على إجازته الموعودة وهيأ السيارة والمؤونة اللازمة للرحلة في مساء ذلك اليوم... وفي الصباح الباكر من اليوم التالي استيقظ على سمية تدعوه لتناول الإفطار والبدء بالرحلة الغامضة للبحث عن(مودس) المدينة الضائعة..
نقل عامر الأغراض للسيارة.. وأوصى البواب بالانتباه والحذر حتى لا يعود اللصوص من جديد، ثم اتجه وسمية صوب الغرب.. نحو عمق الصحراء، وبعد عدة ساعات وصلا إلى بناء بدا وحيداً على الطريق:
- هذه هي الاستراحة التي تزودت فيها ببعض الماء والطعام قبل أن تدهمني الزوابع الرملية.. ما رأيك لو نستريح بها قليلاً ثم نتابع المسير؟
- لا بأس.. يا عامر.. كما تشاء.
- ألست جائعة؟
- لا.. ثم أن لدينا طعام خاص أعددته لرحلتنا.
- سنشرب الشاي إذن.
- أرى سيدة عجوز تجلس هناك.
- ربما كانت زوجة ذلك الشيخ الذي قابلته حين بدء رحلتي.
- إنها تنظر إلينا بفضول.
اقتربا منها:
- السلام عليكم يا خالة.
- وعليكم السلام ماذا تريدان؟ الطعام أم الشراب؟
- سنشرب كأسين من الشاي فقط.
- لا بأس.. وإلى أين تقصدان في هذا الطقس الحار؟
- الغرب يا خالة.
- الطريق ليس سهلاً.. وقد غطت معظمه الزوابع الرملية أمس.
- سنحاول الاستعانة بالبوصلة لتحديد الاتجاه.
أحضرت لهما الشاي، سألها عامر:
- زوجك ليس هنا؟
- إنه في مهمة وقد تأخر، أتوقع عودته خلال لحظات..
- مهمة؟ أي نوع من المهمات يمكن أن يكلف بها؟
- مهمة مستحيلة، ولكنه يراها ممكنة التحقيق.
ذهبت إلى عملها وتركتهما يتسامران.. وبعد دقائق سمعا صوت سيارة تقترب كان الشيخ قد أقبل فعلاً وركن سيارته الضخمة إلى جانب البناء:
- هه.. لدينا ضيوف؟
وقف عامر مرحبا:
- ألا تتذكرني يا عم؟ كنت مسافراً في الصحراء ونصحتني بعدم المتابعة..
- آه.. تذكرت.. أحدث لك شيء؟
- تجاوزت الزوابع وأكملت طريقي نحو أهلي في الشمال..
- وماذا تفعل الآن؟ عائد إلى بلادك؟ الناس آتون بعد أن أنهوا عطلتهم وأنت عائد؟
- ظرف اضطراري.
- انتبه إلى الزوابع.. قد تلتقي ببعض الناس في الاتجاه المعاكس.
- الزوابع كثيرة في هذا الوقت من العام؟
- بعد المغيب، قد تظهر بشكل فجائي..
قالت له الزوجة العجوز.
- تبدو متعباً.. قلت لك أكثر من مرة لن تعثر على شيء.. لماذا الإصرار على البحث؟ إنها الصحراء الواسعة، قد تبتلعك وتضيع فيها للأبد.. أمعقول أن لا تشفق علي وتتركني وحيدة؟ ليس لي غيرك..
- كفى أرجوك.. لا داعي أن تظهري حزنك أمام الضيوف..
سأله عامر: - هل أضعت شيئاً يا عم؟
- نعم.. وأنا أبحث عنه طيلة سنوات.. دون نتيجة..
همست سمية: - كأنني أعرف هذا الوجه يا عامر..
- ماذا تقولين يا سمية؟ عند عودتنا لم نتوقف هنا.. ربما يشبه أحد الناس الذين قابلتهم.
عادت الزوجة تحكي بألم:
- لا أستطيع أن أكبت ما في نفسي.. لماذا أنت مصر على البحث المستمر وتعلم أن لا أمل لك؟
عاد عامر يسأله:
- هل فقدت عزيزاً عليك تاه في الصحراء؟ تبدو متأثراً.
- إنها قصة طويلة.. لا داعي لأن أزعجك بتفاصيلها.
أخذت العجوز تبكي:
- منذ سنوات طويلة وهو يبحث.. ولم يتوقف عن البحث رغم تقدمه في السن ومرضه.. أقنعه يا بني بالتوقف عن ذلك.. لم يعد قوياً كما كان.. قد تبتلعه الصحراء إلى الأبد..
خفف عنها الشيخ:
- هوني عليك. أنا أعرف هذه الصحراء جيداً، رغم كل الزوابع والأنواء، كنت أعود إليك، لم أفقد طريقي أبداً.. أنا من هذه الصحراء أهلي من البدو الذين خبروا الصحراء وعرفوها جيداً.. لا داعي للخوف.
همس عامر في أذن سمية:
- هل نذهب يا سمية؟ سنتأخر.
- أرجوك يا عامر يجب أن نعرف قصته..
كانت العجوز تبكي:
- كدت تفقد بصرك قبل شهرين نتيجة الرياح الرملية التي أغشت بصرك بذرات رملها الناعم.. آه.. ماذا أقول؟
- لم تقل لنا يا عم عماذا تبحث؟
- مصر على معرفة ذلك؟
- إن سمحت يا عماه.. قد أخفف عنك حزنك وقلقك..
- أبحث عن أهلي، إنهم في مكان ما من هذه الصحراء.
- بدو رحل؟ قبيلة من البدو؟
- ليسوا رحلاً إنهم يعيشون في مدينة صغيرة بين الصخور .
صرخت سمية:
- مودس؟ مدينة مودس؟
- وما أدراك يا ابنتي؟ كيف تعرفين بوجود(مودس)؟
قال عامر:
- لأنها منها، كنت تبحث عن مودس إذن يا عماه؟
- نعم.. ولكن ماذا قلت؟ إنها من مودس؟ كيف؟
- أنا ابنة شيخ مودس الشيخ حمدان.. وكنت قبل أسابيع أحد سكانها..
- أنت من مودس؟ معقول؟
انبرى نحو زوجته منفعلاً:
- قلت لك(مودس) موجودة.. هي ليست حلماً من أحلامي، أو خيالاً مجنحاً من خيالاتي.. أنا ابن(مودس) ولست ابناً للوهم..
- حسناً يا عماه.. ما هي قصتك..؟
- ربما لو حكيتها لك.. قد تساعدني وزوجتك.. ما دمتما تعرفان أين تقع مودس في هذه الصحراء؟
- أسمعت يا سمية.. إنه يبحث عن(مودس) ولم يعثر عليها، منذ سنوات ربما كانت طويلة.
تنهدت سمية:
- لا بأس يا عماه.. احك لنا القصة قد نساعدك.
- أنا أحد أبناء(مودس) كنت شاباً فتياً حين خرجت منها باحثاً عن الناس.. مخترقاً عزلتها الرهيبة آه.. لم أتذكر اسم(شيخ مودس) في ذلك الحين، وإن كنت متأكداً أنه لم يكن حمدان.. ليت ذاكرتي تسعفني
- هل كان اسمه الشيخ(هايل المودسي)؟
- نعم.. نعم.. كان الشيخ هايل.. كيف غاب عن ذهني هذا الاسم؟
- إنه جدي.. والد أبي..
قال عامر:
- حدثنا يا عم.. متى غادرت(مودس)؟ ولماذا غادرتها؟
- آه يا بني.. أمعقول أن أعثر على بعض أبناء(مودس)؟ لست أصدق نفسي أنا سعيد بمعرفتكما.. على كل حال سأحكي لكما شيئاً من قصتي الطويلة..
((اسمي حسن بن أحمد المودسي.. كنا أربعة أخوة.. نعيش في أسرة هادئة.. كان أبي يعمل في صناعة الفخار.. وكانت أمي تساعده أحياناً.. كنت الأصغر بين أخوتي.. وكانت أمي تدللني كثيراً.. وأنا آخر العنقود كما يقولون.. توزع أخوتي في مهن مختلفة، ولم يعمل أي منهم في الفخار كأبي.. وهذا ما جعل أبي يضع ثقته بي.. لأرثه في تلك الصناعة التي كانت ضرورية في(مودس) كانت أمي تقول لي باستمرار.
آه يا حسن، لو منحني الله أنثى، بين هؤلاء الذكور، لساعدتني كثيراً وأنا أتقدم في العمر.. كنت أتمنى لو أن زوجات أخوتك يعاملنني كأم.. كم أنا بحاجة لذلك.. ولكني لا أرى أياً منهن إلا كل شهر حيث يجتمع الجميع هنا.
وكنت أقول لها:
- عندما أبلغ العشرين سأحضر لك زوجة تخدمك طيلة حياتك وأبي..
- أنت في الثامنة عشرة، هل أنتظر كل هذا لوقت، حتى العشرين؟ أغلب أخوتك تزوجوا في مثل سنك.. حاول أن تعجل بالزواج.. سأختار لك أجمل فتيات مودس..
فكرت حائراً: ((لقد اخترتها يا أمي.. (عبلة) هي أجمل الفتيات وأكثرهن عاطفة ووعياً)).
لحظت شرودي:
- أتفكر في فتاة معينة؟ قل لي اسمها سأخطبها لك اليوم.
- لم يحن الأوان بعد يا أماه.. أرجوك أمهليني بعض الوقت؟
- كما تشاء يا بني.. ولكن لا تطل هذا الوقت..






-19-

((كانت"عبلة" ابنة صانع مقابض السكاكين والخناجر.. وكنا نحب بعضنا منذ الطفولة.. وتفتحت أنوثتها وأنا أرقبها كزهرة عطرة ولم تكن أمي قد تأكدت من أن عبلة هي فتاتي وقدري.. وذات يوم كنت وعبلة نطل من فتحة الصخور على الشمس، التي تنزلق خلف حافة الأفق)).
- أتعلمين يا عبلة.. مازالت أمي تلح علي لا يفوتها يوم دون أن تلمح لي بالخطبة والزواج.. وكدت أبوح باسمك لها.. مع أنني متأكد أنها تشك بأنك أنت من أريدها.
- عندما تنتهي المهلة المحددة يا حسن..
- كما تشائين يا عبلة.. ولكن ألم يحن أوان كشف سر هذه المهلة بعد؟ أصدقيني القول يا حبيبتي..
- آه يا حسن.. كنت أتمنى أن أكشف لك كل شيء.. ولكني مرتبطة بقسم أقسمته أمام تلك العرافة العجوز التي ظهرت لي قرب المدخل الشرقي للمدينة.. ثم اختفت.. كأنها طيف.
- العرافة؟ لماذا أصرت هذه العرافة على ربطك بقسم، يجب أن لا تحنثي به؟ ومن هي تلك المرأة.. هل هي من مودس؟ وهل أعرفها؟
- حتى أنا لا أعرفها يا حسن، هي ليست من مودس قلت لك أنها ظهرت لي قرب المدخل الشرقي..
وقضت معي وقتاً حكت لي كل شيء عن مستقبلي ثم اختفت..
- إنه أمر غريب.. ليتك تحكين لي عن كل شيء.. لماذا ربطتك بذلك القسم؟
- آه يا حسن.. لم يعد الوقت الذي يفصلني عن كشف السر، طويلاً حاول أن تصبر.
- كما تشائين يا حبيبتي.. انظري للشمس بدأت تغيب وظهرت نجمة المساء.. آه.. لن تكتمل سعادتي دونك يا عبلة.
ومر الوقت بطيئاً ثقيلاً، وحانت اللحظة التي حددتها لي عبلة من أجل كشف السر، وكنت متلهفاً لذلك..
كانت عبلة في تلك الأيام تذوي شيئاً فشيئاً.. دون أن أعرف شيئاً عن مرضها.. وكانت متعبة حين طلبت الاجتماع بي وحين ذهبت إلى دارها حادثني والدها:
- أرجوك يا حسن حاول أن تقوي من عزيمتها، هي ترفض الطعام والشراب ولا تتناول الدواء الذي يصنعه طبيب الأعشاب الشيخ..
- مرضها ليس سهلاً إذن؟ أمعقول يا عماه أن لا أعرف ذلك؟
- أرجوك يا بني.. هي من طلبت مني كتم الموضوع.. ولست أدري السبب.
- كيف لي أن أعيد لها البسمة؟ يا إلهي معقول؟
- إنها تريدك الآن حاول إقناعها بتناول الطعام والدواء.. أرجوك يا حسن..
- سأفعل كل شيء لإنقاذها يا عماه..
دخلت إليها كانت ممددة على السرير ذابلة كالزهرة:
- حسن.. جئت أخيراً؟
- أمعقول يا عبلة؟ أنت متعبة مريضة، وكنت أظن أنك تتهربين من لقائي، حتى يحين موعد كشف السر.
- طلبت من أبي وأخوتي أن لا يخبروك.. حانت اللحظة الآن.
- ستكشفين لي السر وأنت متعبة.
- أتت لحظتي يا حسن.. أنا في آخر أيامي.. قد أموت اليوم أو غداً.. هكذا قالت لي العرافة.. في مثل هذه الأيام قابلتها.. وحكت لي الكثير من الأسرار، وقالت لي ستظلين في ذاكرة حسن طوال عمره.. أرجوك يا حسن.. اعذرني.. نهشني المرض، منذ زمن بعيد، وقد طلبت من العرافة أن تحكي لي عن مستقبلي فصمتت طويلاً وأمام إصراري حكت لي.. آه يا حسن.. أمعقول أن أعطيك موافقتي على الزواج وأنا أعرف أنني سأموت.. آه.. يا حبيبي.
كدت أنفجر من القهر.
- أمعقول يا عبلة؟ كيف يحدث هذا كيف؟ يا إلهي؟ أكاد أجن.
وماتت عبلة ودفنتها بيدي، وأنا أشعر بحزن لا يوصف، ولم يطل بي المقام في(مودس) فخرجت منها هارباً من أحزاني ومتاعبي.. ولم أستطع الابتعاد كثيراً، رغم أنني تزوجت وأنجبت الأولاد، فقد كانت عبلة، تأتيني كثيراً في الحلم فأشعر بدافع يدفعني وأنا أتذكر أيامي مع عبلة لمعرفة ما جرى لأهلي، وأهل عبلة.. ومنذ سنوات طويلة ومودس في خاطري أجوب عنها الصحاري لائباً حائراً دون نتيجة..
شدت العجوز على يده راجية:
- يكفيك حزناً يا حسن.. تذكر أنني موجودة لم أمت بعد..
- لا بأس.. قلتِ يا ابنتي يا سمية إنك تبحثين عن مودس.. وقد خرجتِ منها مؤخراً، في أي اتجاه ستبحثين؟
- لا أدري.. سنحاول زرع الصحراء أنا وعامر بحثاً عنها.
- كنت أعتقد أن المقولة.. التي حكى عنها أبناء مودس.. أن من يخرج من مودس لا يعود إليها أبداً.. مجرد خرافة..
- لن نيأس يا عماه.. قد نعثر عليها.. من يعلم؟
- سنبحث عنها سوية في الغد.. أنا أعرف الصحراء جيداً.. لماذا لا تنامان هنا اليوم وفي الغد نبكر في التجوال والبحث؟.
همس عامر:
- ما رأيك يا سمية؟
- كما تشاء يا عامر.. قد يفيدنا، إنه خبير بالصحراء..
ولم يسفر البحث عن شيء.. وما زالت سمية وعامر وذلك الشيخ المتعب يأملون بالعثور على(مودس) المدينة الضائعة في قلب الصحراء.


لا تنسو الردود



:1 (8): ... تحياتي للجميع ... :1 (8):
رد مع اقتباس
قديم 09-18-2010, 07:54 AM   #2
عاشق بدأ بقوة
 
الصورة الرمزية أنــfafaــاا
رقـم العضويــة: 66172
تاريخ التسجيل: Sep 2010
الجنس:
المشـــاركـات: 50
نقـــاط الخبـرة: 11

افتراضي رد: (( مدينة خارج الزمن )) رواية من الخيال العلمي

:1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8)::1 (8):
أنــfafaــاا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-23-2010, 07:38 AM   #3
عاشق ألماسي
 
الصورة الرمزية majeta
رقـم العضويــة: 60474
تاريخ التسجيل: Aug 2010
العـــــــــــمــر: 30
الجنس:
المشـــاركـات: 5,184
نقـــاط الخبـرة: 25

افتراضي رد: (( مدينة خارج الزمن )) رواية من الخيال العلمي

مشكورة اختي على مرورك
majeta غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع (( مدينة خارج الزمن )) رواية من الخيال العلمي:
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الخيال العلمي.............آلة الزمن. ـالقدر ـالمجهـgل N H القسم العام 32 09-13-2010 03:06 PM
لعبة الخيال العلمى :Lost Planet 2 احمدعبدالناصر أرشيف قسم الألعاب الإلكترونية 2 09-09-2010 08:01 PM
اجمل واروع ثيمات الخيال العلمي ايتاشي2010 أرشيف قسم البرامج 0 03-14-2010 09:36 PM
تحويل الخيال العلمي إلى واقع العاشق 2005 قسم الأرشيف والمواضيع المحذوفة 0 12-29-2008 06:12 PM

الساعة الآن 03:08 PM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

كُل ما يُكتب أو يُنشر في منتديات العاشق يُمثل وجهة نظر الكاتب والناشر فحسب، ولا يمثل وجهه نظر الإدارة

rel="nofollow" maxseven simplicity and clarity